الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون

                                                                                                                                                                                                                                      قل هل من شركائكم احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما لهم غب إلزام وإفحاما إثر إفحام، وفصله عما قبله لما ذكر من الدلالة على استقلاله من يهدي إلى الحق أي: بوجه من الوجوه، فإن أدنى مراتب المعبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم، وأما تعيين طريق الهداية وتخصيصه بنصب الحجج وإرسال الرسل والتوفيق للنظر والتدبر - كما قيل - فمخل بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام، فإن العجز عن الهداية على وجه خاص لا يستلزم العجز عن مطلق الهداية، وهدى كما يستعمل بكلمة (إلى) لتضمنه معنى الانتهاء يستعمل باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية، وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق، ولذلك استعمل بها ما أسند إلى الله تعالى، حيث قيل: قل الله يهدي للحق أي: هو يهدي له دون غيره، وذلك بما ذكر من نصب الأدلة والحجج وإرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق للنظر والتدبر وغير ذلك من فنون الهدايات، والكلام في الأمر بالسؤال والجواب كما مر فيما مر.

                                                                                                                                                                                                                                      أفمن يهدي إلى الحق وهو الله عز وجل أحق أن يتبع أمن لا يهدي بكسر الهاء، أصله يهتدي فأدغم، وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، وقرئ بكسر الياء إتباعا لها لحركة الهاء، وقرئ بفتح الهاء نقلا لحركة التاء إليها، أي: لا يهتدي بنفسه فضلا عن هداية غيره، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وإنما نفي عنه الاهتداء - مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية - لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا، فإن من اهتدى إلى الحق [ ص: 144 ] لا يخلو عن هداية غيره في الجملة، وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه من حيث لا يدري، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق من تحقق هدايته تعالى صريحا، وعدم هداية شركائهم المفهوم من القصر ومن عدم الجواب المنبئ عن الجواب بالعدم، فإن ذلك مما يضطرهم إلى الجواب الحق لا لتوجيه الاستفهام إلى الترتيب كما يقع في بعض المواقع، فإن ذلك مختص بالإنكاري، كما في قوله تعالى: أفمن اتبع رضوان الله ... إلخ، ونحوه، والهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما تقديمها في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة - كما هو رأي الجمهور - حتى لو كان السؤال بكلمة (أي) لأخرت حتما، ألا يرى إلى قوله تعالى: فأي الفريقين أحق بالأمن إثر تقدير ما يلجئ المشركين إلى الجواب من حالهم وحال رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ (لا يهدي) بمعنى لا يهتدي لمجيئه لازما، أو لا يهدي غيره، وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف - كما اختاره مكي - والتقدير: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق... إلخ، وإما بمعنى حقيق - كما اختاره أبو حيان - وأيا ما كان فالاستفهام للإلزام و(أن يتبع) في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف، أي: بأن يتبع.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن يهدى استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي: لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء، أو إلى هداية الغير، وهذا حال إشراف شركائهم من الملائكة، والمسيح، وعزير، عليهم السلام، وقيل: المعنى: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينتقل إليه، أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه، وقرئ (إلا أن يهدي) من التفعيل للمبالغة.

                                                                                                                                                                                                                                      فما لكم أي: أي شيء لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله سبحانه وتعالى، والاستفهام للإنكار التوبيخي، وفيه تعجيب من حالهم، وقوله تعالى: كيف تحكمون - أي: بما يقضي صريح العقل ببطلانه - إنكار لحكمهم الباطل، وتعجب منه، وتشنيع لهم بذلك، والفاء لترتيب كلا الإنكارين على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي إلى الحق، إن قلت: التبكيت بالاستفهام السابق إنما يظهر في حق من يعكس جوابه الصحيح فيحكم بأحقية من لا يهدي بالاتباع دون من يهدي - وهم ليسوا حاكمين بأحقية شركائهم لذلك دون الله سبحانه وتعالى، بل باستحقاقهما جميعا مع رجحان جانبه تعالى حيث يقولون: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله" – قلت: حكمهم باستحقاقه تعالى للاتباع بطريق الاشتراك حكم منهم بعدم استحقاقه تعالى لذلك بطريق الاستقلال، فصاروا حاكمين باستحقاق شركائهم له دون الله تعالى من حيث لا يحتسبون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية