الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          القسم الثالث : محرمات المصاهرة ، أي التي تعرض بسبب الزواج ، وتحته الأنواع الآتية قال تعالى : وأمهات نسائكم يدخل في الأمهات أم المرأة التي يتزوجها الرجل وجداتها ، ويدخل في النساء من يدخل بها الرجل بملك اليمين ، كما تدخل في مثل قوله - تعالى - : نساؤكم حرث لكم [ 2 : 223 ] وقوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 : 187 ] وقوله : لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وإن لم تدخل في قوله : وإذا طلقتم النساء [ 2 : 231 ] ولا قوله : للذين يؤلون من نسائهم [ 2 : 226 ] لأن الطلاق ، والإيلاء خاص بالزوجات ، ولا يشترط في تحريم أم المرأة دخوله بها ; لأن القرآن لم يشترط الدخول هنا كما اشترطه في بنتها كما يأتي ، وهي بمجرد العقد تكون من نسائه ، وبهذا قال جمهور الصحابة ، ومن بعدهم من علماء الملة ومنهم أئمة الفقه الأربعة . وروي عن بعض الصحابة أن من عقد على امرأة فماتت ، أو طلقها قبل أن يدخل بها جاز له أن يتزوج أمها ، منهم ابن عباس ، وزيد بن ثابت في إحدى الروايتين عنهما . وأما المملوكة فلا تعد من نسائه إلا إذا استمتع بها وحينئذ تحرم عليه أمها .

                          [ ص: 391 ] وقوله - عز وجل - : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن يدخل فيه تحريم بنات امرأة الرجل عليه إذا كان قد دخل بها ، والمراد بالدخول بالمرأة يعرفه كل عربي حتى عامة المولدين ، ويدخل في ذلك بنات بناتها ، وبنات أبنائها ، وإن سفلن ; لأنهن من بناتها في عرف أهل اللغة ، ولا يدخل في هذا التحريم أم زوجة الابن وبنتها ، والربائب : جمع ربيبة ، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره ، سمي ربيبا له لأنه يربه كما يرب ولده أي يسوسه ، فهو معنى مربوب ، والقاعدة أن يقال في مؤنثه ربيب كمذكره ، وإنما قيل ربيبة لأنه جعل اسما . والجماهير على أن قوله - تعالى - : اللاتي في حجوركم وصف لبيان الشأن الغالب في الربيبة ، وهو أن تكون في حجر زوج أمها ( والحجر بالفتح والكسر الحضن ، وهو مكان ما يحجره ويحوطه الإنسان أمام صدره بين عضديه وساعديه ) كما قال : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ 17 : 31 ] لأن الغالب أنهم لم يكونوا يقتلونهم إلا من خشية الفقر ، أو من الفقر وذلك ليس قيدا للنهي ، فلو قتلوهم بسبب آخر كان محرما أيضا . ويقال : فلان في حجر فلان أي في كنفه ورعايته ، قالوا وهو المراد في الآية ، وفيه مع ذلك إشارة إلى جواز جعل الربيبة في الحجر حقيقة أو تجوزا ، كأن تكون في غاية القرب من زوج أمها يخلو بها ، ويسافر معها ، ويعاملها بكل ما يعامل به بنته ، وقال الأستاذ الإمام : ذكر هذا الوصف لإشعار الرجل بالمعنى الذي يوضح له علة التحريم ، ويقررها في نفسه ، وهو كون بنت زوجته في مكان بنته ; لأن زوجته كنفسه ففرعها كفرعه ، فهو وصف يحرك عاطفة الأبوة في الرجل ، وهو كون الربيبة في حجره يحنو عليها حنوه على بنته ، وليس عندي عنه في الآية غير هذه العبارة .

                          وقالت الظاهرية : إن هذا الوصف قيد ، وإن الرجل لا تحرم عليه ابنة امرأته إذا لم تكن في حجره ، وروي هذا عن بعض الصحابة ، فقد روى عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال : " كان عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها " ( أي حزنت ) فلقيني علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) فقال : ما لك ؟ فقلت : توفيت المرأة فقال : لها بنت ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف ، قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا ، قال : انكحها . قلت : فأين قوله - تعالى - : وربائبكم اللاتي في حجوركم ؟ قال : إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك " ويروى أن ابن مسعود كان يقول بذلك ، ثم رجع عنه ، ويمكن أن يقال : إن التي لا تكون في حجره لا تكون ربيبة له في الواقع ; لأنه لا يربها ولا يسوسها ، ويمكن أن يقال أيضا : إنه لا يجد لها في نفسه عاطفة الأبوة التي تفنى فيها ، أو لا تجتمع معها عاطفة الشهوة ، فالاحتياط عندي ألا يتزوجها ، ولا يخلو بها ، ولا سيما إذا لم يجد لها في نفسه عاطفة الأبوة ، وقد استدل بعضهم بقوله - تعالى - : فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم [ ص: 392 ] على أن الربيبة تحرم ، وإن لم تكن في حجر الزوج ; لأنه تفريع لبيان مفهوم ما قيد به التحريم ، فلو كان الكون في الحجور قيدا أيضا لقال : فإن لم تكونوا دخلتم بهن ، أو لم تكن ربائبكم في حجوركم فلا جناح عليكم . والجناح فسروه بالإثم ، وعندي أن تفسيره بالتضييق ، والأذى أحكم ، وأولى ، قال صاحب اللسان : " والجناح ما تحمل من الهم ، والأذى ، أنشد ابن الأعرابي :


                          ولاقيت من جمل وأسباب حبها جناح الذي لاقيت من تربها قبل



                          وقال أيضا : وقيل في قوله : فلا جناح عليكم أي لا إثم عليكم ولا تضييق " اهـ . والحاصل أن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ، ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها .

                          وذهبت الحنفية إلى أن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها ، وكذلك إذا لمسها بشهوة ، أو قبلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة ، بل قالوا أيضا : إذا لمس يد أم امرأته في حال الشهوة ، ولو خطأ فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا وألحقوا ذلك بحرمة المصاهرة بالقياس وتوسعوا في ذلك توسعا ضيقوا فيه تضييقا ! ورد عليهم بأن الزنا ومقدماته ليس فيها شيء من معنى المصاهرة التي جعلها الشارع كالنسب في بعض الأحكام ، وبأن لفظ الآية ينافي ذلك فاللواتي يزنى بهن ، أو يلمسن ، أو يقبلن ، أو ينظر لهن بشهوة لا يصرن من نساء الزناة ، أو المتمتعين منهن بما دون الزنا ، فعبارة القرآن لا تدل على ذلك بنصها ، ولا فحواها ، وحكمة حرمة المصاهرة وعلتها لا تظهر فيها ، ثم إن ما ذكروه من الأحكام في ذلك هو مما تمس إليه الحاجة وتعم به البلوى أحيانا ، وما كان الشارع ليسكت عنه فلا ينزل به قرآن ، ولا تمضي به سنة ، ولا يصح فيه خبر ، ولا أثر عن الصحابة ، وقد كانوا قريبي العهد بالجاهلية التي كان الزنا فيها فاشيا بينهم ، فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركا في الشرع ، أو تدل عليه علله ، وحكمه لسألوا عن ذلك وتوفرت الدواعي على نقل ما يفتون به .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية