الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 374 ] المسألة الثانية

              الإكثار من الأسئلة مذموم ، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح ، من ذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية [ المائدة : 101 ] .

              وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ : ولله على الناس حج البيت الآية [ آل عمران : 97 ] ، فقال رجل : يا رسول الله ، أكل عام ؟ فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله ، أكل عام ؟ ثلاثا ، وفي كل ذلك يعرض ، وقال في الرابعة : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم .

              وفي مثل هذا نزلت : لا تسألوا عن أشياء الآية [ المائدة : 101 ] .

              [ ص: 375 ] وكره - عليه الصلاة والسلام - المسائل وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، وقال : إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء ، فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان ، فلا تبحثوا عنها .

              وقال ابن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلهن في القرآن : ويسألونك عن المحيض [ البقرة : 222 ] [ ص: 376 ] ويسألونك عن اليتامى [ البقرة : 220 ] . يسألونك عن الشهر الحرام [ البقرة : 217 ] ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم .

              يعني أن هذا كان الغالب عليهم .

              وفي الحديث : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليه ، فحرم عليهم من أجل مسألته .

              وقال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم [ ص: 377 ] على أنبيائهم .

              وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام عبد الله بن حذافة السهمي ، فقال : من أبي ؟ فقال : أبوك حذافة ، فلما أكثر أن يقول : سلوني ، برك عمر بن الخطاب على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال عمر ذلك ، وقال أولا : والذي نفسي بيده ، لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط ، وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر .

              وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال : سلوني في معرض الغضب ، تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ، ولأجل ذلك ورد في الآية قوله : إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] .

              ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة ، فقد روي عن ابن عباس أنه قال : " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها ، وما كادوا يفعلون " .

              وقال الربيع بن خثيم : يا عبد الله ، ما علمك الله في كتابه من علم [ ص: 378 ] فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم ، فكله إلى عالمه ، ولا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص : 86 ] إلخ .

              وعن ابن عمر ، قال : لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن .

              [ ص: 379 ] وفي الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن الأغلوطات .

              [ ص: 380 ] فسره الأوزاعي ، فقال : يعني صعاب المسائل .

              وذكرت المسائل عند معاوية ، فقال : أما تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى [ ص: 381 ] عن عضل المسائل .

              وعن عبدة بن أبي لبابة قال : وددت أن حظي من أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء ، ولا يسألوني عن شيء ، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم .

              وورد في الحديث : " إياكم وكثرة السؤال " .

              وسئل مالك عن حديث : " نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال " قال : أما كثرة السؤال ، فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل ، فقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها ، وقال الله تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [ المائدة : 101 ] ، فلا أدري أهو هذا ، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء .

              [ ص: 382 ] وعن عمر بن الخطاب ، أنه قال على المنبر : أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن ، فإن الله قد بين ما هو كائن .

              وقال ابن وهب : قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل : يا عبد الله ، ما علمته فقل به ، ودل عليه ، وما لم تعلم فاسكت عنه ، وإياك أن تتقلد [ ص: 383 ] للناس قلادة سوء .

              وقال الأوزاعي : إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط .

              وعن الحسن قال : إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل ، يعنتون بها عباد الله .

              وقال الشعبي : والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري ، قلت : من هم يا أبا عمرو ؟ قال : الأرأيتيون .

              وقال : ما كلمة أبغض إلي من " أرأيت " .

              [ ص: 384 ] وقال أيضا لداود الأودي : احفظ عني ثلاثا لها شأن : إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك " أرأيت " ، فإن الله قال في كتابه : أرأيت من اتخذ إلهه هواه [ الفرقان : 43 ] حتى فرغ من الآية ، والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء ، فربما حرمت حلالا ، أو حللت حراما ، والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم ، فقل لا أعلم ، وأنا شريكك .

              وقال يحيى بن أيوب : بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون : إذا أراد الله ألا يعلم عبده خيرا أشغله بالأغاليط .

              [ ص: 385 ] والآثار كثيرة .

              والحاصل منها أن كثرة السؤال ، ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية ، والاحتمالات النظرية - مذموم ، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه ، وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألوه حتى يسمعوا كلامه ، ويحفظوا منه العلم ، ألا ترى ما في الصحيح عن أنس ، قال : نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع .

              ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل ، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ، ثم أخبرهم - عليه الصلاة والسلام - أنه جبريل ، وقال : أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا .

              وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا ، وكان أصحابه يهابون ذلك ، قال أسد بن الفرات - وقد قدم على مالك - : وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة ، فإذا أجاب يقولون : قل له فإن كان كذا ، فأقول له : فضاق علي يوما ، فقال لي : هذه سليسلة بنت سليسلة ، إن أردت هذا ، فعليك بالعراق ، وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لإيغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي .

              [ ص: 386 ] وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة ، فقالت لها : أحرورية أنت ؟ إنكارا عليها السؤال عن مثل هذا .

              وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة ، فقال الذي قضى عليه : كيف أغرم من لا شرب ، ولا أكل ، ولا شهق ، ولا استهل ، ومثل ذلك يطل ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : إنما هذا من إخوان الكهان .

              [ ص: 387 ] وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها : نقص عقلها ؟ فقال سعيد : أعراقي أنت ؟ فقلت : بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلم ، فقال : هي السنة يابن أخي .

              وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية