الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  8316 - حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني ، ثنا أبي ، ثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : وتسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى قبل خروج جعفر وأصحابه : عثمان بن مظعون ، وعثمان بن عفان ، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير أخي بني عبد الدار ، وعامر بن ربيعة ، وأبي سلمة بن عبد الأسد ، وامرأته أم سلمة ، وأبي سبرة بن أبي رهم ومعه أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو ، وسهيل بن بيضاء ، قال : ثم رجع هؤلاء الذين ذهبوا المرة الأولى قبل جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين أنزل الله عز وجل السورة التي يذكر فيها : والنجم إذا هوى ، وقال المشركون من قريش : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحدا ممن خالف دينه من اليهود ، والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر ، فلما أنزل الله عز [ ص: 35 ] وجل السورة التي يذكر فيها : والنجم ، وقرأ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت فقال : " وإنهن لمن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى " ، وذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك ، وذلت بها ألسنتهم واستبشروا بها ، وقالوا : إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيها النجم ، سجد وسجد معه كل من حضر من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع على كفه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين على غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين ، وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم ، وحدثهم الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السجدة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة ، فلما سمع عثمان بن مظعون ، وعبد الله بن مسعود ومن كان معهم من أهل مكة أن الناس قد أسلموا وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه أقبلوا سراعا ، وكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فشكا إليه فأمره فقرأ عليه ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام ، وقال : معاذ الله من هاتين ، ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك ، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه ، وقال : " أطعت الشيطان وتكلمت بكلامه وشركني في أمر الله " فنسخ الله عز وجل ما ألقى الشيطان ، وأنزل عليه : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ، [ ص: 36 ] فلما برأه الله من سجع الشيطان وفتنته ، انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم ، وبلغ المسلمين ممن كان بأرض الحبشة وقد شارفوا مكة ، فلم يستطيعوا الرجوع من شدة البلاء الذي أصابهم والجوع والخوف ، خافوا أن يدخلوا مكة فيبطش بهم ، فلم يدخل رجل منهم إلا بجوار ، وأجار الوليد بن المغيرة ، عثمان بن مظعون ، فلما أبصر عثمان بن مظعون الذي لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلاء ، وعذبت طائفة منهم بالنار وبالسياط ، وعثمان معافى لا يعرض له رجع إلى نفسه فاستحب البلاء على العافية ، وقال : أما من كان في عهد الله وذمته وذمة رسوله الذي اختار لأوليائه من أهل الإسلام ، ومن دخل فيه فهو خائف مبتلى بالشدة والكرب عمد إلى الوليد بن المغيرة فقال : يا ابن عم ، قد أجرتني فأحسنت جواري ، وإني أحب أن تخرجني إلى عشيرتك فتبرأ مني بين أظهرهم ، فقال له الوليد : ابن أخي ، لعل أحدا آذاك وشتمك وأنت في ذمتي فأنت تريد من هو أمنع لك مني فأكفيك ذلك ؟ قال : لا والله ما بي ذلك ، وما اعترض لي من أحد ، فلما أبى عثمان إلا أن يتبرأ منه الوليد أخرجه إلى المسجد وقريش فيه كأحفل ما كانوا ، ولبيد بن ربيعة الشاعر ينشدهم ، فأخذ الوليد بيد عثمان فأتى به قريشا ، فقال : إن هذا غلبني وحملني على أن أبرأ إليه من جواري ، أشهدكم أني منه بريء ، فجلسا مع القوم ، وأخذ لبيد ينشدهم ، فقال :


                                                                  ألا كل شيء ما خلا الله باطل



                                                                  فقال عثمان : صدقت ، ثم إن لبيد أنشدهم تمام البيت :


                                                                  وكل نعيم لا محالة زائل



                                                                  ، فقال : كذبت فأسكت القوم ولم يدروا ما أراد بكلمته ثم أعادها [ ص: 37 ] الثانية وأمر بذلك ، فلما قالها قال مثل كلمته الأولى والآخرة صدقه مرة ، وكذبه مرة ، وإنما يصدقه إذا ذكر كل شيء يفنى وإذا قال : كل نعيم ذاهب كذبه عند ذلك : إن نعيم أهل الجنة لا يزول ، نزع عند ذلك رجل من قريش فلطم عين عثمان بن مظعون فاخضرت مكانها ، فقال الوليد بن المغيرة وأصحابه : قد كنت في ذمة مانعة ممنوعة ، فخرجت منها إلى هذا ، وكنت عما لقيت غنيا ، ثم ضحكوا ، فقال عثمان : بل كنت إلى هذا الذي لقيت منكم فقيرا ، وعيني التي لم تلطم إلى مثل هذا الذي لقيت صاحبتها فقيرة ، لي فيمن هو أحب إلي منكم أسوة ، فقال له الوليد : إن شئت أجرتك الثانية ، فقال : لا أرب لي في جوارك .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية