الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
558 [ ص: 180 ] حديث ثامن لربيعة منقطع يتصل من وجوه

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أصابته مصيبة فقال كما أمره الله : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي ، وأعقبني خيرا منها ، إلا فعل الله ذلك به .

قالت أم سلمة : فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ، ثم قلت : ومن خير من أبي سلمة ؟ فأعقبها الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجها
ا هـ .

التالي السابق


هكذا روى يحيى هذا الحديث ، وتابعه جماعة من رواة الموطأ ، ورواه ابن وهب فقال : حدثني مالك بن أنس ، عن ربيعة أن أبا سلمة قال لأم سلمة : لقد سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاما ما أحب أن لي به حمر النعم ، سمعته يقول : ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي ، وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله ذلك به [ ص: 181 ] قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ، ثم قلت : ومن خير من أبي سلمة ؟ ، ثم قلته ، فأعقبني الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر :

هذا الحديث يتصل من وجوه شتى ، إلا أن بعضهم يجعله لأم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعضهم يجعله لأم سلمة ، عن أبي سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك اختلف فيه أيضا عن مالك على حسب ما ذكرناه ، وهذا مما ليس يقدح في الحديث ; لأن رواية الصحابة بعضهم عن بعض ، ورفعهم ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء عند العلماء ; لأن جميعهم مقبول الحديث ، مأمون على ما جاء به ، بثناء الله عليهم ، وقد أوضحنا هذا المعنى في غير هذا الموضع ، وأبو سلمة مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصحابة فأغنى ذلك عن ذكره هاهنا اهـ .

أخبرني أحمد بن محمد قال : أخبرنا وهب بن مسرة قال : أخبرنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا حضرتم الميت أو المريض ، فقولوا خيرا ; فإن الملائكة يؤمنون على ما [ ص: 182 ] تقولون ، قالت : فلما مات أبو سلمة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال : قولي اللهم اغفر له ، وأعقبني منه عقبى حسنة ، قالت : ففعلت فأعقبني الله من هو خير منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سعد بن سعيد قال : أخبرني عمر بن كثير بن أفلح قال : سمعت [ ص: 183 ] ابن سفينة يحدث أنه سمع أم سلمة تقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلفني خيرا منها ، إلا أجره في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها ، قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخلفني الله خيرا منه محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو بكر : وحدثنا ابن نمير قال : حدثنا سعد بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح قال : أخبرني علي بن سفينة مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فذكر مثله ، إلا أنه قال : فقلت من هو خير من أبي سلمة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ، ثم عزم لي فقلتها .

قال أبو عمر :

هكذا يقول في هذا الحديث سعد بن سعيد بإسناده ، عن أم سلمة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخالفه سعيد بن [ ص: 184 ] أبي هلال ( في الإسناد ، وجعله عن أم سلمة ، عن أبي سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره ابن وهب قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن سعيد بن أبي هلال ) ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أم أيمن مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : أخبرتني أم سلمة زوج النبي عليه السلام أن أبا سلمة أتاها يوما فقال : لقد سمعت اليوم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاما لهو أحب إلي من حمر النعم ، قالت : وما هو يا أبا سلمة ؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من رجع عند مصيبة ، ثم قال : اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلفني خيرا منها ، كان له ذلك ، قالت : فلما أصيب أبو سلمة ، ثم قلت : اللهم أجرني في مصيبتي قالت : وهممت أن أقول : وأخلف لي خيرا منها ، ثم قلت : ومن خير من أبي سلمة قالت : ورسول - صلى الله عليه وسلم - أمامي متوكئ على أبي بكر ممسك بيده قالت : ثم قلتها قالت : فشد على يدي أبي بكر .

قال أبو عمر : هكذا قال سعيد بن أبي هلال ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أم [ ص: 185 ] أيمن ، وقال سعد بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن علي بن سفينة - والله أعلم - .

وأما إسناده عن أبي سلمة فهو الصحيح ، وبالله التوفيق .

حدثني سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عبد الملك بن قدامة الجمحي ، عن أبيه ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أن أبا سلمة حدثها أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من مسلم أصيب بمصيبة فيفزع لما أمره الله به من قول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها ، وعضني خيرا منها ، إلا أجره الله عليها ، وعاضه خيرا منها ، قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم إني احتسبت عندك مصيبتي ، فأجرني عليها ، فلما أردت أن أقول : عضني خيرا منها ، قلت في نفسي : أعاض خيرا من أبي سلمة ؟ ، ثم قلتها ، فعاضني الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأجرني في مصيبتي .

[ ص: 186 ] قال أبو عمر :

عبد الملك بن قدامة هذا هو عبد الملك بن قدامة بن محمد بن حاطب الجمحي مدني ثقة شريف .

وأخبرني أبو عبد الله عبيد بن محمد ، ومحمد بن عبد الملك قالا : أخبرنا عبد الله بن مسور العسال قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا ثابت قال : [ ص: 187 ] أخبرني عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد ، عن أمه أم سلمة أن أبا سلمة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها ، وأبدلني بها خيرا منها ، قالت : فلما احتضر أبو سلمة بن عبد الأسد قال : اللهم اخلفني في أهلي بخير مني ، فلما قبض أبو سلمة قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها ، فكنت إذا أردت أن أقول : وأبدلني خيرا منها قلت : ومن خير من أبي سلمة ؟ فلم أزل حتى قلتها ، قال : فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته ، ثم خطبها عمر فردته ، ثم بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطبها فقالت : مرحبا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومرحبا بالله ورسوله : أقرئ رسول الله السلام ، وأخبره أني امرأة غيرى ، وأنا مصبية ، وليس أحد من أوليائي شاهدا ، قال : فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما قولك : إني غيرى ، فإني سأدعو الله أن يذهب غيرتك ، وأما قولك : إني مصبية فإن الله سيكفيك ، وأما أولياؤك فليس أحد منهم شاهدا ولا غائبا إلا سيرضاني ، فقالت لابنها : قم يا عمر فزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزوجها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إني لا أنقصك مما أعطيت أختك فلانة جرتين ، ورحى ، ووسادة [ ص: 188 ] من أدم ، حشوها ليف ، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيها ، وهي ترضع زينب ، فكان إذا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذتها فوضعتها في حجرها ترضعها ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبيبا كريما ، فرجع فنظر إليها عمار بن ياسر ، وكان أخاها من الرضاعة فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيها ذات يوم فجاء عمار فدخل عليها ، فأهبط زينب من حجرها ، وقال : دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي قد آذيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل فجعل يلتفت ينظر في البيت ، ويقول : أين زناب ؟ وما فعلت زناب ؟ وما لي لا أرى زنابا ؟ فقالت : جاء عمار فذهب بها ، فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهله ، وقال لها : إن سبعت لك سبعت للنساء .

قال أبو عمر :

ليس في حديث أم سلمة من رواية مالك معنى يشكل ، ولا موضع تنازعه العلماء في التأويل ، وإنما هو دعاء واسترجاع وتعز ، ومعنى قوله إنا لله أي نحن لله وعبيد وخلق خلقنا للفناء [ ص: 189 ] وإنا إليه راجعون أي : إليه نصير ، وإليه نرجع ; لأنه تبارك اسمه إليه يرجع الأمر كله والخلق كله ; فلا بد من الموت والرجوع إلى الله ، أي : فما لنا نجزع مما لا بد لنا منه ، ولا محيد عنه ، وهذا أحسن شيء ، وأبلغه في حسن العزاء ، وفيه إيمان ، وإخلاص ، وإقرار بالبعث ، والحمد لله .




الخدمات العلمية