الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة الإلهية من سعة الرزق أو ضيقه

السؤال

الله عز وجل خلقنا لعبادته، لا لجمع الدنيا، ولا المال.
كثير من الناس يسكنون اليوم في بيوت ليست لهم (إيجار) وهذا يجعلهم يصرفون أغلب رواتبهم سدى على الإيجار الذي لا ينفع.
وكثير من الناس كلَّما التقينا بهم قالوا: ماذا فعلتم؟ ألم تشتروا بيتا؟ ألم تزوِّجوا ولدكم؟
وهم يعرفون حالنا المالية، ولكن الناس مولعون بالاستهزاء، والسؤال عن أملاك الدنيا، وأرى كثيرا من أصدقائي حزينين، فأسألهم: ما بكم؟ فيقولون: لم نبن لأولادنا! وكيف ندخلهم الجامعات.
فأقول: سبحان الله! وهل خلقنا الله لهذا؟ وهل يكفل هذا أحد؟
فهلا تعطونا كلمة تريح قلوبنا، ونصيحة لهؤلاء الفضوليين الذين يؤذوننا بأسئلتهم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنه لا شك أن الناس خلقوا للعبادة، كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات: 56 -58]. ولكن هذا لا يعني ترك التكسب، والاهتمام بالمصالح الدنيوية. فقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في التكسب، والسعي والتحرك، واستغناء المرء عن الآخرين، وأكله من كسب يده، وهذا هو هدي الأنبياء، والصحابة والعلماء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على عمل اليد: ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده. رواه البخاري. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني. وقال: إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. رواه الترمذي وقال فيه: حسن صحيح. وقال: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً. رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني. وقال: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه، أو يمنعه. رواه البخاري.

وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يتاجرون، ويزرعون، ويؤجرون أنفسهم، وكان من سلف هذه الأمة من يمتهن المهن، ويتكسب بها حتى اشتهر بعضهم بنسبته لمهنته، أو مكان عمله كالبزار، والخواص، والدراقطني، والدباغ، والحداد والبقال، وكان من الصحابة من يؤجر نفسه عند الحاجة بشيء من التمر، ثم يرجع بعدما يحقق مهمته.

وعن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح كما قال المنذري.

وقد عذر الله المشتغلين بالسفر للتكسب، فأمرهم بما تيسر من القيام، فقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ {المزمل:20}.

قال الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين، والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. اهـ.

ولا شك أنه يطلب من الشخص الابتعاد عما لا يعنيه؛ لما في حديث الترمذي: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

وأما سؤال البعض عن أحوالكم، فينبغي حسن الظن بهم، واحتمال أحسن المخارج لهم، فتصور أنهم مهتمون بمصالحكم، ويحبون الخير لكم. فقد قال عمر -رضي الله عنه-: وضعْ أمرَ أَخيكَ على أَحسنِهِ، حتى يجيئَكَ ما يغلبُكَ. ولا تظنَّ بكلمةٍ خرجتْ مِن مسلمٍ شراً، وأنتَ تجدُ لها في الخيرِ مَحملاً. ولا تتضايقوا من كثرة سؤال الناس عن حالكم، وتذكروا أن الله تعالى قسم الأرزاق بين الناس، وأن كثرة المال وقلته، ليس معيارا للسعادة، ولا لمنزلة العبد عند الله تعالى.

فقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه، ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه، ولكن عطاءه ومنعه ابتلاء وامتحان، يمتحن بهما عباده، قال الله تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا ـ أي ليس كل من أعطيته ونعمته، وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي، ولكنه ابتلاء وامتحان له أيشكرني، فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه، وأخول فيه غيره. وليس كل من ابتليته، فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذلك من هوانه، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر، فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط فيكون حظه السخط، فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي ـ فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته، فله الحمد على هذا، وعلى هذا، وهو الغني الحميد. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني