الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يوجد فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة؟

السؤال

في البداية، أحب أن أقول: إنني أعلم أنه لا يجوز لي أن أقول ذلك، أو أعترض على الأمر، لكن نفسي، والشيطان يغلبانني دائماً، وكل ما في الأمر هو أنني أشعر بالضيق، لماذا من المستحيل علينا أن نصل إلى عُشر ثواب الصحابة، مهما أنفقنا، ومهما تصدقنا، ومهما صلينا، ومهما جاهدنا؟ ولماذا فضلهم الله علينا؟ حتى ولو أخذنا منزلة الصديقية، أو الشهادة، وغيرها، فلن نصل إلى نعيم جنتهم؟ ولماذا لا يمكننا أن نصل لهذا؟ أعلم أن هذا بسبب ما فعلوه لنشر الإسلام، وما عانوه مع رسول الله صلى الله عليه، وسلم، لكن لماذا لم يجعلني الله أحد الصحابة؟ حسنًا أنا أقولها، أنا أحسد حقًا الصحابة على مرافقتهم رسول الله صلى الله عليه، وسلم، وما فعلوه لأجل الإسلام، وهذا ـ والله ـ خارجٌ عن إرادتي، لكن ما أحسدهم عليه حقًا هو مكانتهم في الإسلام في الدنيا، والآخرة.. فلماذا لن نصل لها أبدًا مهما فعلنا؟ حتى السلف، والتابعون.. لن نصل إلى مكانتهم أيضاً.. ودائمًا ما يأتيني الشيطان من هذا الجانب، ويذكرني أنه مهما فعلت، ومهما حاولت، فلن أصل إلى عشر ما فعلوه من مكانةٍ، أو درجةٍ في الآخرة، ودائًما ما يوسوس لي أنني من شوائب هذه الأمة! ودائماً سأظل في أسفلها، وهذا خطأٌ، وكل ما أريده هو أن ينجيني الله تعالى من نار جهنم، وأن يدخلني جنة نعيمٍ، لكنني دائماً ما أجد نفسي أطمع لأعلى درجات الجنة.. وأنا أعلم أنني لن أصلها مهما فعلت، ومهما حاولت..
وسؤالي هو: ما هي معايير تفضيل الله تعالى للناس؟ أعلم أن الله فضل الصحابة علينا، لأنه يعلم أنهم أفضل من يساعدون النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا يعني أنني عديم الفائدة؟ لم هنالك حلقة التفضيل تلك؟ ولن نصل مهما فعلنا إلى مكانة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لِمَ لم يجعلنا الله سواسيةً، أعلم أنه لا يجوز لي أن أعترض على حكم الله في شيءٍ، لكن دائماً ما يضيق صدري من هذا الأمر.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا يكاد عجبنا ينقضي من هذه الطريقة في التفكير، وتناول قضية المفاضلة! ومن تجارى به ذلك، فلماذا لا يكون الأمر نفسه حتى مع الأنبياء الذين اصطفاهم الله تعالى، وفضلهم على من سواهم؟! والله سبحانه أعلم، وأحكم، وأعظم، وأكبر، وأعز، وأجل، من أن يقال في حقه: ما هي معايير تفضيل الله تعالى للناس: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الأنبياء: 23}.

أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ {العنكبوت: 10}.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ {النساء: 25}.

وحسبنا في ذلك قوله سبحانه: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ {الأنعام: 53}.
وعلى أية حالٍ، فجزم السائل باستحالة أن يصل المسلم ـ مهما فعل ـ إلى عُشر ثواب الصحابة، وإلى نعيم جنتهم: ليس في محله؛ فقد اختلف أهل العلم في: هل يوجد فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة أم لا؟ وقد رجح الحافظ ابن عبد البر أن ذلك يوجد، وأورد في ذلك أحاديث كثيرةً، ثم قال في التمهيد: وهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها، وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة، وآخرها، والمعنى في ذلك ما قدمنا ذكره من الإيمان، والعمل الصالح في الزمن الفاسد، الذي يرفع فيه العلم، والدين من أهله، ويكثر الفسق، والهرج، ويذل المؤمن، ويعز الفاجر، ويعود الدين غريباً كما بدأ، ويكون القائم فيه بدينه، كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذٍ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل، إلا أهل بدرٍ، والحديبية ـ والله أعلم ـ ومن تدبر آثار هذا الباب، بان له الصواب، والله يؤتي فضله من يشاء. اهـ.

فراجع ذلك بطوله ـ إن أردت ـ في كتاب التمهيد، وعنه نقل جماعة من شراح صحيح مسلمٍ عند: باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء ـ وكذلك القرطبي في تفسيره عند قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ {آل عمران:110}. وانظر الفتوى: 384475.
وقد سبق لنا تناول هذه المسألة في عدة فتاوى، منها الفتاوى: 102360، 454555، 139963، 368398، 57046.

ثم إننا نلفت نظر السائل إلى أن هذه الفضيلة التي حازها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانت في مقابل امتحانٍ وابتلاءٍ شديدٍ، لا يدري المرء منا إن تعرض له كيف سيكون حاله؟ وإلى هذا يشير ما رواه محمد بن كعبٍ القرظي قال: قال فتى منا من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركناه ما ‌تركناه ‌يمشي ‌على ‌الأرض، ولجعلناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل هوياً، ثم التفت إلينا فقال: من رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يرجع، أدخله الله الجنة، فما قام رجلٌ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة، فما قام رجلٌ من القوم مع شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلما لم يقم أحدٌ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بدٌ من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة، فاذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا .. الحديث، رواه أحمد، وغيره، وصححه محقق المسند بطرقه.

ثم إننا نبشر السائل بما رواه أنس ـ رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت مع من أحببت ـ قال أنسٌ: فما فرحنا بشيءٍ، فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت ـ قال أنسٌ: فأنا أحب النبي صلى الله عليه، وسلم، وأبا بكرٍ، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. رواه البخاري، ومسلم.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني