الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الفرق بين الصبر على القدر والرضا به

السؤال

كيف يرضى الشخص بالقدر؟ كان بيننا نقاشٌ -أنا وصديقي- فقال: كيف ترضى بالقدر؟ أنت ترضى به، وأنت مكرهٌ على ذلك. فأنت ماذا يمكنك أن تفعل؟ وإن لم تكن راضيا، فماذا سيحصل؟ رضيت أم لا، الأمر ليس على مزاجك، أتمنى الرد على أخيكم، لكي يكون على بينةٍ من هذا الأمر.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الصبر على المقدور من المصائب واجبٌ باتفاق العلماء، وأما الرضا: فهو منزلةٌ أعلى من الصبر، وقد اختلف العلماء في حكم الرضا بالمصائب، هل هو واجبٌ؟ أم مستحب؟ والراجح أنه مستحبٌ، وليس بواجبٍ، فقد قال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى ـ 10ـ 40:

وأما الرضا: فقد تنازع العلماء، والمشايخ من أصحاب الإمام أحمد، وغيرهم في الرضا بالقضاء: هل هو واجبٌ، أو مستحبٌ؟ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين، قال عمر بن عبد العزيز: الرضا عزيزٌ، ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لابن عباس: إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين، فافعل، فإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا.

انتهى.
والفرق بين الصبر والرضا: أن الصبر كف النفس، وحبسها عن التسخط، مع وجود الألم، وأما الرضا: فهو انشراح الصدر، وسعته عند وقوع المصيبة، وإن وجد الإحساس بأصل الألم، قال ابن رجب في نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس:

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ـ وفي رواية عمر مولى غفرة، عن ابن عباسٍ زيادة قبل هذا الكلام، وهي: فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، وإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً... فإذا نظر المؤمن بالقضاء، والقدر في حكمة الله، ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، دعاه ذلك إلى الرضا بالقضاء، وقال الله: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه {التغابن 11} قال علقمة في هذه الآية: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها، ويرضى ـ وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقضي الله للمؤمن من قضاءٍ، إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن ـ وقد دل القرآن على مثل هذا المعنى، في قوله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين {التوبة 51، 52} فأخبر أنه لن يصيبهم إلا ما كتب لهم، فدل على أنه لهم بكل حالٍ، سواءً كان مما يلائم، أو لا يلائم، وأخبر أنه تعالى مولاهم، ومن تولاه الله لم يخذله، بل هو يتولى مصالحه، قال تعالى: وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير {الأنفال 40} ثم عقب ذلك بقوله: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين {التوبة 52} يعني إما النصر، والظفر، وإما الشهادة، وأيهما كان، فهو حسن، وخرج الترمذي، من حديث أنسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط، فله السخط... وللرضا بالقضاء أسبابٌ:

منها: يقين العبد بالله، وثقته بأنه لا يقضي للمؤمن قضاءً، إلا وهو خيرٌ له، فيصير كالمريض المستسلم للطبيب الحاذق الناصح، فإنه يرضى بما يفعله به، من مؤلم، وغيره، لثقته به، ويقينه أنه لا يريد له إلا الأصلح...

ومنها: النظر إلى ما وعد الله من ثواب الرضا، وقد يستغرق العبد في ذلك حتى ينسى ألم المقضي به، كما روي عن بعض الصالحات من السلف: أنها عثرت، فانكسر ظفرها، فضحكت، وقالت: أنساني لذة ثوابه، مرارة ألمه.

ومنها: وهو أعلى من ذلك كله -الاستغراق في محبة المبتلي، ودوام ملاحظة جلاله، وجماله، وعظمته، وكماله، الذي لا نهاية له، فإن قوة ملاحظة ذلك يوجب الاستغراق فيه، حتى لا يشعر بالألم، كما غاب النسوة اللاتي شاهدن يوسف عن ألم تقطيع أيديهن بمشاهدته...

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباسٍ بالعمل لله بالرضا، إن استطاعه، ثم قال له: فإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ـ وهذا يدل على أن الرضا بالأقدار المؤلمة، ليس بحتم واجب؛ وإنما هو فضلٌ مندوبٌ إليه، فمن لم يستطع الرضا، فليلزم الصبر، فإن الصبر واجبٌ، لابد منه، وفيه خيرٌ كثيرٌ، فإن الله تعالى أمر بالصبر، ووعد عليه جزيل الأجر، قال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب {الزمر 10} وقال: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون {البقرة 155 - 157} وقال تعالى: وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم { الحج 34، 35} قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن.

وحقيقة الفرق بين الصبر، والرضا: أن الصبر كف النفس، وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر، وسعته، وإن وجد الإحساس بأصل الألم، لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم، لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وقد يزيل الإحساس به بالكلية على ما سبق تقريره، ولهذا، قال طائفةٌ كثيرةٌ من السلف، منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل، وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها، بخلاف الصابر ـ وقد روي عن طائفةٍ من الصحابة هذا المعنى أيضاً، وأنهم كانوا لا يتمنون غير ما هم عليه من الحال، منهم عمر، وابن مسعودٍ .اهـ.

ويتبين مما تقدم أن ما زعمه صديقك من أن الرضا بالمصائب اضطراريٌ من كل أحدٍ، وليس اختيارياً؛ باطلٌ، وليس بصحيحٍ.

لكن الصبر منه صبرٌ اختياريٌ محمودٌ، وهو صبر الكرام، ومنه صبرٌ اضطراريٌ يقع بعد الجزع، وهو صبر اللئام، قال ابن القيم في عدة الصابرين: في الفرق بين صبر الكرام، وصبر اللئام: كل أحدٍ لا بد أن يصبر على بعض ما يكره، إما اختياراً، وإما اضطراراً: فالكريم يصبر اختياراً، لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر، لم يرد الجزع عليه فائتاً، ولم ينتزع عنه مكروهاً، وأن المقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله، فالجزع ضره أقرب من نفعه، قال بعض العقلاء: العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر... وقال بعض العقلاء: من لم يصبر صبر الكرام، سلا سلو البهائم... وأما اللئيم: فإنه يصبر اضطراراً، فإنه يحوم حول ساحة الجزع، فلا يراها تجدى عليه شيئاً، فيصبر صبر الموثق للضرب. اهـ.

وراجع المزيد حول معنى الرضا، وما يعين على تحقيقه، والفرق بينه، وبين الصبر في الفتاوى: 133621، 391843، 409045، 23586، 195677.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني