الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ضوابط جواز الاستدلال بالنصوص الشرعية على العلوم المختلفة

السؤال

هل يمكن أن أستدل بأحاديث نبوية في مقالات فلسفية؟ مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالْحُمَّى، وَالسَّهَرِ. فأوظف هذا الحديث لأبين أن الجسم عبارة أعضاء مترابطة، ومتماسكة فيما بينها، لهذا لا يمكن ممارسة المنهج التجريبي على كائن حي.
أو توظيف الآيات مثل قوله تعالى: وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. فهنا أوظف الآية في بيان أن الحزن المكبوت في الجزء اللاشعوري يؤدي إلى أمراض عضوية كالعمى، ولهذا تعتبر الدراسات النفسية علمًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا إشكال في جواز الاستدلال بالنصوص الشرعية من الكتاب أو السنة في شتى أنواع العلوم، ما دام المعنى المستنبط من النص منضبطا بمناهج الاستنباط، وقواعد الاستدلال المقررة في علم أصول الفقه.

ومن أمثلة استدلال العلماء بالنصوص الشرعية في علم الطب قديما ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد بقوله:

وأما مرض الأبدان: فقال تعالى: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج {النور: 61} وذكر مرض البدن في الحج، والصوم، والوضوء، لسر بديع يبين لك عظمة القرآن، والاستغناء به لمن فهمه، وعقله عن سواه.

وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة، فقال في آية الصوم: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر {البقرة: 184} فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلبا لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبها الصوم في السفر، لاجتماع شدة الحركة، وما توجبه من التحليل، وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة وتضعف؛ فأباح للمسافر الفطر حفظا لصحته وقوته عما يضعفها، وقال في آية الحج: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك {البقرة: 196} فأباح للمريض ومن به أذى في رأسه من قمل، أو حكة، أو غيرها، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغا لمادة الأبخرة الردية التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.

والأشياء التي يؤذي انحباسها، ومدافعتها عشرة: الدم إذا هاج، والمني إذا تبيغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش. وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه، وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها -وهو البخار المحتقن في الرأس- على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن: التنبيه بالأدنى على الأعلى.

وأما الحمية: فقال تعالى في آية الوضوء: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا {النساء: 43}، فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل، أو خارج، فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ومجامع قواعده. اهـ.

لكن الإشكال الكبير هو في الجرأة على إقحام النصوص الشرعية في العلوم المعاصرة بلا أهلية في العلم الشرعي، وبلا انضباط بقواعد وأصول الاستدلال، مع الإعراض عن كلام الأئمة والعلماء في معاني النصوص، وتفسيرها، وشرحها.

ومن أمثلة هذا: ما يتكلفه بعض المعاصرين فيما يعرف بالإعجاز العلمي، كما سبق في الفتوى: 375538.

واستسهال الخوض في النصوص الشرعية بلا أهلية من الكوارث العظيمة، فالقول على الله بلا علم من كبائر الموبقات، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف: 33}.

قال ابن القيم في أعلام الموقعين: فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه، وشرعه. اهـ.

وأما بخصوص المثالين المذكورين: فالاستدلال بالحديث على الترابط بين أعضاء الجسد صحيح ظاهر لا جدال فيه، لكن الزيادة على ذلك بأنه -لهذا لا يمكن ممارسة المنهج التجريبي على كائن حي- فنسبة هذا المعنى للنص الشرعي تكلُّف لا بيَّنة عليه، ويخشى أن يكون من القول في الدين بلا علم.

وأما الاستدلال بقوله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {يوسف: 84} .

على أن الحزن قد يسبب أمراضا عضوية؛ كالعمى لا يظهر فيه إشكال، وإن كان قوله تعالى: قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {يوسف: 85} أوضح في الدلالة على هذا المعنى.

جاء في المحرر الوجيز لابن عطية: والحرض: الذي قد نهكه الهرم، أو الحب، أو الحزن إلى حال فساد الأعضاء، والبدن والحس، وعلى هذا المعنى قراءة الجمهور: حَرَضا ـ بفتح الراء والحاء... والحرض -بالجملة: الذي فسد ودنا موته... فكأنهم قالوا على جهة التعنيف له: أنت لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك، أو إلى الهلاك، فأجابهم يعقوب عليه السلام رادا عليهم: إني لست ممن يجزع ويضجر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله. اهـ.

وانظري للفائدة الفتوى: 408817.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني