الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

            لما دخلت سنة خمس وثلاثين من الهجرة وقد قتل عثمان رضي الله عنه دخل علي رضي الله عنه منزله وأغلق عليه بابه فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له: إن هذا الرجل قد قتل ، ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: لا تفعلوا ، فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين. فدخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس. وقيل: أول من بايعه طلحة، وعن قيس، قال: رأى أعرابي طلحة يبايع عليا رضي الله عنه، قال: يد شلاء وأمر لا يتم.

            وفي هذه السنة أراد قسطنطين بن هرقل غزو بلاد المسلمين في ألف مركب فأرسل الله عليهم الريح فأغرقهم، ولم ينج منهم أحد.

            ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة، وفيها قام علي رضي الله عنه بإرسال عماله إلى الأمصار فمنهم من دخل مصره وأخذ البيعة لعلي رضي اه عنه، ومنهم من اختلف عليه أهل مصره فبايع بعضهم وبعضهم لم يبايع وبعضهم توقف حتى يرى ما تفعله بقية الأمصار، ومنهم من امتنع أهل مصره من البيعة بالكلية كأهل الشام حتى يقاد من قتلة عثمان رضي الله عنه.

            وفي هذه السنة كانت وقعة الجمل، والتي أوقع فيها المنافقون قتلة عثمان رضي الله عنه بين جيش أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم وبين جيش علي رضي الله عنه بعدما اتفقوا على الصلح بينهم، فوقعت مقتلة عظيمة، وفيها كان مقتل الزبير وطلحة رضي الله عنهما ومحاولة قتل عائشة رضي الله عنها من أولئك المنافقين ومدافعة الناس عن عائشة والجمل الذي عليه هودجها ثم انتهاء القتال ورجوع عائشة رضي الله عنها وإكرام علي رضي الله عنه لها.

            وفيها كانت وقعة صفين أيضا بين جيش العراق وأهل الشام، وذلك أن عليا رضي الله عنه لما بلغه امتناع معاوية رضي الله عنه خرج بالجيش إلى الشام ودعا معاوية ليدخل فيما دخل فيه الناس من الطاعة فأبى إلا أن يقاد أولا من قتلة عثمان رضي الله عنه.

            ثم دخلت سنة سبع وثلاثين، وجيش علي ومعاوية رضي الله عنه متواجهان متقاتلان في صفين وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها. والمقصود أنه لما دخل شهر المحرم تحاجزوا عن القتال، طلبا للصلح ورجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يئول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم، وقد جرت العديد من المحاولات للصلح كلها لم تفلح وظل القتال حتى رفع أهل الشام المصاحف طالبين التحكيم، ثم كان ما كان من قصة التحكيم التي جرت بين أبي موسى الأشعري رضي الله عنه من قبل علي رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه من قبل معاوية رضي الله عنه وقد اتفقا على أن يخلعا صاحبيهما ثم يتركا الناس يتفقوا على من يولوا وقد أعلن أبو موسى رضي الله عن هذا الأمر على الملأ فلما قام عمرو وافقه على خلع علي ولم يوافقه على خلع معاوية بل إثبات معاوية.

            وفي هذه الأثناء خرجت الخوارج على علي رضي الله عنه بالباطل رافعين شعار لا حكم إلا لله وهي كلمة حق أرادوا بها باطلا وقد ناظرهم علي وابن عباس رضي الله عنهما وردا عليهم جميع ما أوردوه من شبهات فرجع عدد كبير إلى الجادة واعتقاد المسلمين وبقي من عميت بصيرته وضل سعيه، ثم تطورت الأحداث فخرجوا على الأمة بالسلاح وقتلوا عبد الله بن خباب وقتلوا امرأته وبقروا بطنها وقتلوا جنينها، فقاتلهم علي رضي الله عنه في النهروان وكسرهم.

            ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين، وفيها أخذ معاوية رضي الله عنه مصر، وذلك بعدما عزل علي رضي الله عنه عنها قيس بن سعد وولاها الأشتر فمات وهو في الطريق إليها، فاستناب عليها محمد بن أبي بكر، فعزم معاوية على أخذ مصر منه فأرسل عمرو بن العاص إليها فما زال عمرو به حتى أخرجه إلى عريش مصر في عدد قليل من جنده وظفر به وضيق عليه فهرب وظل معاوية بن حديج في طلبه حتى أسره وقتله ومثل به.

            ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وفيها فرق معاوية بن أبي سفيان جيوشا كثيرة في أطراف معاملات علي بن أبي طالب، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص الخلافة بعد اتفاقه هو وأبو موسى على خلع علي وعزله عن الأمر - أن ولايته صحيحة ، وقد وقعت الموقع، فهو الذي تجب طاعته فيما يعتقده ، ولأن أهل العراق قد خالفوا عليا فلا يطيعونه ، ولا يأتمرون بأمره ، فلا يحصل بمباشرته مقصود الولاية والإمارة ، والحالة هذه ، فأنا أولى منه ; إذ كانت كلمة أهل الشام ومصر مجموعة علي، وهم طائعون لي، يأتمرون بأمري، وكلمتي نافذة فيهم. فعند ذلك جهز الجيوش إلى أطراف مملكة علي.

            وفي هذه السنة ولى علي رضي الله عنه زياد بن أبيه على أرض فارس.

            ثم دخلت سنة أربعين وفيها كان مقتل علي رضي الله عنه، ومحاولة قتل معاوية وعمرو رضي الله عنهما

            وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، قد انتقضت عليه الأمور، واضطربت عليه الأحوال، وخالفه جيشه من أهل العراق وغيرهم، ونكلوا عن القيام معه، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان، فهو أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله، عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه، وقد كان يعطيهم العطاء الكثير والمال الجزيل، فلا زال هذا دأبهم معه حتى كره الحياة وتمنى الموت; وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ماذا يحبس أشقاها - أي ما ينتظر - ما له لا يقتل؟ ثم يقول : والله لتخضبن هذه- ويشير إلى لحيته- من هذه . ويشير إلى هامته.

            وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ والسير، أن ثلاثة من الخوارج; وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري والبرك بن عبد الله التميمي. وعمرو بن بكر التميمي، اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟! كانوا من خير الناس وأكثرهم صلاة، وكانوا دعاة الناس إلى ربهم، لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فقتلناهم فأرحنا منهم البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا. فقال ابن ملجم أنا أكفيكم علي بن أبي طالب. وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان. وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم فسموها، واتعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه.

            فأما علي فقد قتله ابن ملجم وأما معاوية فضرب إلا أن الضربة وقعت في فخذه وعولج منها ولم تغن شيئا وأما عمرو فشاء الله تعالى ألا يخرج للصلاة كما هي عادته لمرض ألم به فخرج خارجة للصلاة بالناس فقتل بدلا منه فقال عمرو حينئذ: أردتني وأراد الله خارجة. فقدمه عمرو فقتله.

            التعريف بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه

            علي بن أبي طالب، واسمه: عبد مناف بن عبد المطلب، من أول من أسلم من الصحابة رضي الله عنهم وكان عمره حين أسلم عشر سنين، وقيل: تسع، وقيل: ثمان، وقيل: دون ذلك. قال الحسن بن زيد بن الحسن: (ولم يعبد الأوثان قط; لصغره، أخرجه ابن سعد. ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. أمره أن يقيم بعده بمكة أياما; حتى يؤدي عنه أمانته والودائع والوصايا التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يلحقه بأهله، ففعل ذلك. وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا وسائر المشاهد إلا تبوك; فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة. وله في جميع المشاهد آثار مشهورة، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء في مواطن كثيرة.

            وهو زوج فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وأبو الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» وهو الذي قال له صلى الله عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وهو بليغ الخطباء خطيب البلغاء، العالم الرباني المفسر الفقيه المشهود له بالجنان.

            وفي هذه السنة بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة إلى الحجاز واليمن فدخل المدينة قهرا وهدد وتوعد وأخذ البيعة قهرا لمعاوية ثم دخل اليمن فقتل ولدي عبيد الله بن عباس طفلين صغيرين فدعا عليه علي رضي الله عنه.

            وفيها كانت خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه، وقد علم عجز أهل الكوفة وما هم عليه من الخلاف والشر فعمل على الصلح بينه وبين معاوية وتوحيد كلمة المسلمين، وقد كان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»، وقد تم ذلك في السنة التالية.

            ثم دخلت سنة إحدى وأربعين من الهجرة النبوية، وفيها سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبي سفيان. فعن الزهري أنه قال: لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم: إنكم سامعون مطيعون، مسالمون من سالمت، محاربون من حاربت. فارتاب به أهل العراق وقالوا: ما هذا لكم بصاحب. فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه، فازداد لهم بغضا، وازداد منهم ذعرا، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه، وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية