الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة إحدى وأربعين من الهجرة النبوية

            قال ابن جرير : فيها سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبى سفيان . ثم روى عن الزهري أنه قال : لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم : إنكم سامعون مطيعون ، مسالمون من سالمت ، محاربون من حاربت . فارتاب به أهل العراق وقالوا : ما هذا لكم بصاحب . فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه ، فازداد لهم بغضا ، وازداد منهم ذعرا ، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه ، وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه على ما يختاران .

            وعن أبى موسى قال : سمعت الحسن يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبى سفيان بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال معاوية ، وكان والله خير الرجلين : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء هؤلاء ، وهؤلاء هؤلاء ، من لي بأمور الناس ؟ من لي بضيعتهم ؟ من لي بنسائهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس ; عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر ، فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه ، وقولا له ، واطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما ، وقالا له ، وطلبا إليه ، فقال لهما الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها . قالا : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك . قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به . فما سألهما شيئا إلا قالا : نحن لك به . فصالحه . قال الحسن : ولقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ، ويقول : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. "

            قال الحسن : فوالله والله بعد أن ولي لم يهرق في خلافته ملء محجمة من دم .

            وعن سعيد بن أبي سعيد المدني قال : كنا مع أبي هريرة ، إذ جاء الحسن بن علي فسلم فرددنا عليه ، ولم يعلم به أبو هريرة ومضى ، فقلنا : يا أبا هريرة ، هذا الحسن بن علي قد سلم علينا . قال : فتبعه فلحقه ، وقال : وعليك السلام يا سيدي . وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنه سيد " .

            وقال أبو الحسن علي بن محمد المدائني : كان تسليم الحسن الأمر لمعاوية في الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين . وقال غيره : في ربيع الآخر . ويقال : في غرة جمادى الأولى . فالله أعلم .

            خطبة الحسن بن علي لإعلام الناس بنزوله لأمر معاوية

            قال : وحينئذ دخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها بعد البيعة .

            وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي أن يخطب الناس ويعلمهم بنزوله عن الأمر لمعاوية ، فأمر معاوية الحسن ، فقام في الناس خطيبا ، فقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله هداكم بأولنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وإن لهذا الأمر مدة ، والدنيا دول ، وإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [ الأنبياء : 111 ] . فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس ، وعتب على عمرو بن العاص في إشارته بذلك ، ولم يزل في نفسه منه لذلك . والله أعلم .

            تبكيت الناس للحسن على نزوله لأمر معاوية

            وعن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سودت وجوه المؤمنين - أو : يا مسود وجوه المؤمنين - فقال : لا تؤنبني رحمك الله ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره ، فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر يا محمد . يعني نهرا في الجنة ، ونزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية يا محمد . قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يوما ولا تنقص .

            وعن أبو الغريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفا بمسكن مستميتين ، تقطر أسيافنا من الجد على قتال أهل الشام وعلينا أبو العمرطة ، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ ، فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قال له رجل منا يقال له : أبو عامر سفيان بن الليل : السلام عليك يا مذل المؤمنين . فقال : لا تقل هذا يا أبا عامر ، لست بمذل المؤمنين ، ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك .

            استقرار الحسن بن علي في المدينة

            ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها ، واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق ، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب ، وقد كان عزم على الشقاق ، وحصل على بيعة معاوية عامئذ الإجماع والاتفاق ، ترحل الحسن بن علي ، ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وجعل كلما مر بحي من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية ، وهو في ذلك مصيب بار راشد ممدوح ، وليس يجد في صدره حرجا ولا تلوما ولا ندما ، بل هو راض بذلك مستبشر به ، وإن كان قد ساء هذا خلقا من ذويه وأهله وشيعته ، ولا سيما بعد ذلك بمدد ، وهلم جرا إلى يومنا هذا . والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة ، كما مدحه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم في الحديث الصحيح ، ولله الحمد والمنة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية