الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج ذات الجنب

روى الترمذي في " جامعه " من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت )

وذات الجنب عند الأطباء نوعان : حقيقي وغير حقيقي . فالحقيقي ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع . وغير الحقيقي : ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات ، [ ص: 75 ] فتحدث وجعا قريبا من وجع ذات الجنب الحقيقي ، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود ، وفي الحقيقي ناخس .

قال صاحب " القانون " : قد يعرض في الجنب والصفاقات ، والعضل التي في الصدر والأضلاع ونواحيها أورام مؤذية جدا موجعة تسمى شوصة وبرساما وذات الجنب . وقد تكون أيضا أوجاعا في هذه الأعضاء ليست من ورم ، ولكن من رياح غليظة ، فيظن أنها من هذه العلة ولا تكون منها .

قال : واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقا من مكان الألم ؛ لأن معنى ذات الجنب صاحبة الجنب ، والغرض به هاهنا وجع الجنب فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه ، وعليه حمل كلام بقراط في قوله : إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام . قيل : المراد به كل من به وجع جنب ، أو وجع رئة من سوء مزاج ، أو من أخلاط غليظة ، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى .

قال بعض الأطباء : وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان : فهو ورم الجنب الحار ، وكذلك ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة ، وإنما سمي ذات الجنب ورم ذلك العضو إذا كان ورما حارا فقط .

ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض : وهي الحمى والسعال والوجع الناخس وضيق النفس والنبض المنشاري .

والعلاج الموجود في الحديث ، ليس هو لهذا القسم ، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة ، فإن القسط البحري - وهو العود الهندي على ما جاء مفسرا في أحاديث أخر - صنف من القسط إذا دق دقا ناعما ، وخلط بالزيت المسخن ، ودلك به مكان الريح المذكور ، أو لعق كان دواء موافقا لذلك نافعا [ ص: 76 ] له محللا لمادته مذهبا لها مقويا للأعضاء الباطنة ، مفتحا للسدد ، والعود المذكور في منافعه كذلك .

قال المسبحي : العود حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة ، ويطرد الريح ويفتح السدد ، نافع من ذات الجنب ، ويذهب فضل الرطوبة ، والعود المذكور جيد للدماغ . قال : ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضا إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة ، والله أعلم .

وذات الجنب من الأمراض الخطرة ، وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة أنها قالت : بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه في بيت ميمونة ، وكان كلما خف عليه ، خرج وصلى بالناس ، وكان كلما وجد ثقلا قال : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس " واشتد شكواه حتى غمر عليه من شدة الوجع ، فاجتمع عنده نساؤه وعمه العباس وأم الفضل بنت الحارث وأسماء بنت عميس ، فتشاوروا في لده ، فلدوه وهو مغمور ، فلما أفاق قال " من فعل بي هذا ؟ هذا من عمل نساء جئن من هاهنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة ، وكانت أم سلمة وأسماء لدتاه ، فقالوا : يا رسول الله ! خشينا أن يكون بك ذات الجنب . قال : " فبم لددتموني " ؟ قالوا : بالعود الهندي وشيء من ورس وقطرات من زيت . فقال " ما كان الله ليقذفني بذلك الداء " ثم قال : " عزمت عليكم أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس ) .

[ ص: 77 ] وفي " الصحيحين " عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق قال : ( ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى منكم أحد إلا لد غير عمي العباس ، فإنه لم يشهدكم " )

قال أبو عبيد عن الأصمعي : اللدود : ما يسقى الإنسان في أحد شقي الفم ، أخذ من لديدي الوادي ، وهما جانباه . وأما الوجور فهو في وسط الفم .

قلت : واللدود - بالفتح - هو الدواء الذي يلد به . والسعوط ما أدخل من أنفه .

وفي هذا الحديث من الفقه معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء إذا لم يكن فعله محرما لحق الله ، وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلا قد ذكرناها في موضع آخر ، وهو منصوص أحمد ، وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين ، وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة ، وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة ، فيتعين القول بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية