الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما هديه في الشراب ، فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة ، فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد ، وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء ، فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ، ويجلو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات، [ ص: 206 ] ويسخنها باعتدال ، ويفتح سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة ، وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته وحدة الصفراء ، فربما هيجها، ودفع مضرته لهم بالخل ، فيعود حينئذ لهم نافعا جدا ، وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرها ، ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألفها طبعه ، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمة العسل ، ولا قريبا منه ، والمحكم في ذلك العادة ، فإنها تهدم أصولا ، وتبني أصولا .

وأما الشراب إذا جمع وصفي الحلاوة والبرودة ، فمن أنفع شيء للبدن ، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له ، واستمداد منه ، وإذا كان فيه الوصفان ، حصلت به التغذية ، وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء ، وإيصاله إليها أتم تنفيذ .

والماء البارد رطب يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلل منها ، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق .

واختلف الأطباء هل يغذي البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفة التغذية به بناء على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به ، ولا سيما عند شدة الحاجة إليه .

قالوا : وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة منها : النمو والاغتذاء والاعتدال ، وفي النبات قوة حس تناسبه ، ولهذا كان غذاء النبات بالماء ، فما ينكر أن يكون للحيوان به نوع غذاء ، وأن يكون جزءا من غذائه التام .

قالوا : ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه في الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة . قالوا : وأيضا الطعام إنما يغذي بما فيه من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذية .

[ ص: 207 ] قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة الشيء ، حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية ، قال الله تعالى : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [ الأنبياء : 30 ] ، فكيف ننكر حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟ .

قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد ، تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته ، وصبر عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه ، ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ، ولا يجد به القوة والاغتذاء ، ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به ، وإنما ننكر على من سلب قوة التغذية عنه البتة ، ويكاد قوله عندنا يدخل في إنكار الأمور الوجدانية .

وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به ، واحتجت بأمور يرجع حاصلها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقوم مقام الطعام ، وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ، ولطافته ورقته ، وتغذية كل شيء بحسبه ، وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين اللذيذ يغذي بحسبه ، والرائحة الطيبة تغذي نوعا من الغذاء ، فتغدية الماء أظهر وأظهر .

والمقصود : أنه إذا كان باردا ، وخالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب ، أو التمر أو السكر ، كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفظ عليه صحته ، فلهذا كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارد الحلو . والماء الفاتر ينفخ ، ويفعل ضد هذه الأشياء .

ولما كان الماء البائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم : وقد دخل إلى حائط أبي الهيثم بن التيهان : ( هل من ماء بات في [ ص: 208 ] شنة ؟ " فأتاه به فشرب منه ) ، رواه البخاري ، ولفظه : ( إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا ) .

والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضا فإن الأجزاء الترابية والأرضية تفارقه إذا بات ، وقد ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كان يستعذب له الماء ، ويختار البائت منه ) . وقالت عائشة : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقى له الماء العذب من بئر السقيا ) .

والماء الذي في القرب والشنان ، ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ، ولا سيما أسقية الأدم ، ولهذا التمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ماء بات في شنة دون غيرها من الأواني ، وفي الماء إذا وضع في الشنان وقرب الأدم خاصة لطيفة لما فيها من المسام المنفتحة التي يرشح منها الماء ، ولهذا كان الماء في الفخار الذي يرشح ألذ منه ، وأبرد في الذي لا يرشح ، فصلاة الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفسا ، وأفضلهم هديا في كل شيء ، لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان ، والدنيا والآخرة .

قالت عائشة : كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الحلو البارد ) . وهذا يحتمل أن يريد به الماء العذب ، كمياه العيون والآبار [ ص: 209 ] الحلوة ، فإنه كان يستعذب له الماء . ويحتمل أن يريد به الماء الممزوج بالعسل ، أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب . وقد يقال - وهو الأظهر - : يعمهما جميعا .

وقوله في الحديث الصحيح : ( إن كان عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا ) ، فيه دليل على جواز الكرع ، وهو الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها ، وهذه - والله أعلم - واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم ، أو قاله مبينا لجوازه ، فإن من الناس من يكرهه ، والأطباء تكاد تحرمه ، ويقولون : إنه يضر بالمعدة ، وقد روي في حديث لا أدري ما حاله عن ابن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نشرب على بطوننا ، وهو الكرع ، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة ، وقال : ( لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ، ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره إلا أن يكون مخمرا ) .

وحديث البخاري أصح من هذا ، وإن صح فلا تعارض بينهما ، إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ ، فقال : وإلا كرعنا ، والشرب بالفم إنما يضر إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه ، كالذي يشرب من النهر والغدير ، فأما إذا شرب منتصبا بفمه من حوض مرتفع ونحوه ، فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية