الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
44 - ذكر المائدة وصفتها

999 - 1 حدثنا الوليد بن أبان ، قال : حدثني الحسن بن أحمد بن ليث ، حدثنا جعفر بن علي الحنفي ، وكان من المصلين ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار الصنعاني المجدر - يسكن صنعاء - ، عن إبراهيم بن عمر ، عن وهب بن منبه ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الخير - رضي الله عنه - أنه قال : لما سأل الحواريون عيسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما - المائدة ، كره ذلك جدا ، وقال : " يا قوم ، اتقوا الله ، واقنعوا بما رزقكم الله تعالى في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية [ ص: 1535 ] من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم - يعني هلاكهم - ، فأبوا إلا أن تأتيهم ، فلذلك قالوا : ( نريد أن نأكل منها ، وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ) فلما رأى عيسى - عليه السلام - أنهم قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قال : فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود جبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل الصلاة ، وصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائما فاستقبل القبلة ، وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب ، وحاذى الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى فوق صدره ، وأغضى بصره ، وطأطأ رأسه خشوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه ، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله تعالى ، فقال : ( اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا ) أي تكون لنا عظة ( لأولنا وآخرنا وآية منك ، ) [ ص: 1536 ] أي وعلامة منك تكون بيننا وبينك ( وارزقنا ) عليها طعاما نأكله ( وأنت خير الرازقين ) قال : فأنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها ، وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء ، تنقض من ظلل السماء تهوي إليهم ، وعيسى - عليه السلام - يبكي خوفا للشروط التي اتخذ الله عليهم فيها أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهو يدعو الله في مكانه ، ويقول : إلهي ، اجعلها رحمة ، إلهي ! لا تجعلها عذابا ، إلهي ! كم من عجيبة سألتك ، فأعطيتني ، إلهي ! اجعلنا لك شاكرين ، إلهي ! أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا وزجرا ، إلهي ! اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة ، فما زال يدعو بذلك حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى - عليه السلام - ، والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخر عيسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما كثيرا - ساجدا شكرا له بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب ، وعبرة ، وأقبلت اليهود - لعنهم الله تعالى - ينظرون ، فرأوا أمرا عظيما عجيبا أورثهم كمدا ، وغما ، ثم انصرفوا بغيظ شديد ، وأقبل عيسى - عليه السلام - والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطى ، قال عيسى - عليه السلام - : من أجرأنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه ؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر اسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ قال الحواريون : يا روح الله ، وكلمته ! أنت أولانا بذلك ، وأحقنا بالكشف [ ص: 1537 ] عنه ، فقام عيسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما كثيرا - فاستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلاه ، فصلى لذلك ركعات ، ثم بكى طويلا ، ودعا الله عز وجل أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ، ورزقا ، ثم انصرف وجلس إلى السفرة ، وتناول المنديل ، وقال : " بسم الله خير الرازقين " ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا ، قد نضد حولها فضول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات ، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى - عليه السلام - : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية ، فقال شمعون : لا ، وإله إسرائيل ! ما أردت بهذا سوءا يا ابن الصديقة ، فقال عيسى - عليه السلام - : ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ، ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة ، فقال له : كن فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا ما سألتم بسم الله ، واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ، ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر ، قالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية ، فقال عيسى - عليه السلام - : سبحان الله ! ما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا إليها آية أخرى ، ثم أقبل عيسى - عليه السلام - على السمكة ، فقال : يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت ، فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت [ ص: 1538 ] ، وعادت بإذن الله تعالى حية طرية تلمظ كما تلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها ، ففزع القوم منها ، وانحاشوا ، فلما رأى عيسى - عليه السلام - ذلك منهم ، قال : ما لكم تسألون الآية ، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون ، يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت ، فعادت بإذن الله تعالى مشوية كما كانت في خلقها الأول ، فقالوا لعيسى - عليه السلام - : كن أنت يا روح الله وكلمته الذي تبدأ بالأكل ، ثم نحن بعد ، فقال عيسى - عليه السلام - : معاذ الله من ذلك ، يبدأ بالأكل من طلبها ، فلما رأى الحواريون وأصحابهم خافوا أن يكون نزولها سخطة ، وفي أكلها مثلة فتحاموها ، فلما رأى ذلك عيسى - عليه السلام - دعا لها الفقراء والزمنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها ليكون مهنأها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله ، واختموه بحمد الله ، ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاث مائة إنسان بين رجل وامرأة يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر عيسى - عليه السلام - والحواريون ، فإذا ما عليها كهيئتها إذ نزلت من السماء ، وهم ينظرون ، فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل زمن أكل منها ، فلم يزالوا [ ص: 1539 ] أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا ، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يزاحم بعضهم بعضا - الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى - يركب بعضهم بعضا ، فلما رأى ذلك جعلها نوائب بينهم ، وكانت تنزل غبا ، وتنزل يوما ولا تنزل يوما - كناقة ثمود ترد ماءهم يوما ، وتغيب عنهم في رعيها يوما - ، فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل غبا عند ارتفاع الضحى ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - أن اجعل رزقي في المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء ، وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها ، وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين حتى قالوا لعيسى - عليه السلام - : أخبرنا عن المائدة ، ونزولها من السماء ، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير ، قال عيسى - عليه السلام - : هلكتم وإله المسيح ! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل كذبتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى ، فأوحى الله عز وجل إلى عيسى [ ص: 1540 ] - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما - : إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال عيسى - عليه السلام - مشتكيا لربه : إلهي ! ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فلما أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير ، وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات ، وأمسى سائر بني إسرائيل يطيفون بعيسى - عليه السلام - خوفا ورعبا مما لقي أصحابهم ، فلما خرج عيسى - عليه السلام - أقبلت الخنازير تسعى إليه ، وتلوذ به ، فلما اجتمعت إليه خرت له سجودا ، ودموعها تسيل ، فجعل عيسى - عليه السلام - يسمي رجالا منهم يدعوهم بأسمائهم يا فلان ، يا فلان ، فيومئ كل واحد منهم برأسه لا يستطيعون الكلام ، فقال : قد كنت أحذركم عقاب الله ، وأنذركم عذابه ، وكأني كنت أنظر إليكم ممسوخين مثلة من المثلات ، فأخبر عنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمته ذلك حين استعجل كفار قريش بالعذاب ، وقال ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ) وقال ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ) إلى ( وكانوا يعتدون ) فقاموا بذلك ثلاثة أيام ، وأهلوهم يبكون حولهم ، وقد رق [ ص: 1541 ] لهم الناس ، وخافوا ما نزل بهم ، فلما رأى ذلك عيسى - عليه السلام - ، ودعا الله تعالى أن يميتهم ، فأماتهم اليوم الرابع ، فلم ير لهم جيفة في الأرض ، فالله أعلم أين كانت جيفهم ؟ غير أنها كانت عقوبة استأصلت أهلها حتى لم يبق لهم أثر في الأرض " .

التالي السابق


الخدمات العلمية