الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      ( فالدرجة الأولى : الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق ، وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وأبدا ، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ، فأول ما خلق الله القلم قال له : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، جفت الأقلام ، وطويت الصحف ؛ كما قال تعالى : ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ، [ ص: 253 ] وقال : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا : فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء ، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيقال له : اكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، ونحو ذلك ، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ، ومنكره اليوم قليل .

      التالي السابق


      ش فالدرجة الأولى تتضمن :

      أولا : الإيمان بعلمه القديم المحيط بجميع الأشياء ، وأنه تعالى علم بهذا العلم القديم الموصوف به أزلا وأبدا كل ما سيعمله الخلق فيما [ ص: 254 ] لا يزال ، وعلم به جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال .

      فكل ما يوجد من أعيان وأوصاف ويقع من أفعال وأحداث فهو مطابق لما علمه الله عز وجل أزلا .

      ثانيا : أن الله كتب ذلك كله وسجله في اللوح المحفوظ ، فما علم الله كونه ووقوعه من مقادير الخلائق وأصناف الموجودات وما يتبع ذلك من الأحوال والأوصاف والأفعال ودقيق الأمور وجليلها قد أمر القلم بكتابته ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء .

      وكما قال في الحديث الذي ذكره المؤلف : إن أول ما خلق الله القلم ؛ قال له : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .

      و ( أول ) هنا بالنصب على الظرفية ، والعامل فيه ( قال ) ؛ أي : قال له ذلك أول ما خلقه .

      وقد روي بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره القلم .

      [ ص: 255 ] ولهذا اختلف العلماء في العرش والقلم ؛ أيهما خلق أولا .

      وحكى العلامة ابن القيم في ذلك قولين ، واختار أن العرش مخلوق قبل القلم ، قال في ( النونية ) :


      والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده
      قولان عند أبي العلا الهمداني والحق أن العرش قبل لأنه
      وقت الكتابة كان ذا أركان وكتابة القلم الشريف تعقبت
      إيجاده من غير فصل زمان

      وإذا كان القلم قد جرى بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة بكل ما يقع من كائنات وأحداث ؛ فهو مطابق لما كتب فيه ، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره .

      [ ص: 256 ] وهذا التقدير التابع للعلم القديم تارة يكون جملة ؛ كما في اللوح المحفوظ ؛ فإن فيه مقادير كل شيء ، ويكون في مواضع تفصيلا يخص كل فرد ؛ كما في الكلمات الأربع التي يؤمر الملك بكتابتها عند نفخ الروح في الجنين ؛ يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد .

      فهذا تقدير خاص ، وهذا التقدير السابق على وجود الأشياء قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ؛ مثل : معبد الجهني ، وغيلان الدمشقي ، وكانوا يقولون : إن الأمر أنف .

      [ ص: 257 ] ومنكر هذه الدرجة من القدر كافر ؛ لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة ، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع .




      الخدمات العلمية