الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- أهمية تنمية القدرات التسخيرية لم يعد باستطاعة الإنسان العيش في طور التكنولوجيا العلمية، إلا إذا احتل – على الأقل- المستوى الثالث، من مستويات القدرة التسخيرية التي مر ذكرها. إذ لم تعد قيمة للقدرات العقلية والطاقات الجسدية، إذ لم تتوثق معرفة [ ص: 119 ] الفرد بالقدرات التسخيرية، والتفكير العلمي. وتضيف التربية الإسلامية عاملا آخر لأهمية تنمية القدرات التسخيرية وإخراج الإنسان العلمي، والمجتمع العلمي، والبشرية العلمية. وهذه الأهمية هـدفها أن يصبح العلم زادا شعبيا يتزود به العامة والخاصة، لبلوغ درجة اليقين الإيماني. فالعلم والتفكير العلمي هـما دعامتا الإيمان، وبرهانه الساطع. وحين يشيع العلم، وينتشر، تنكشف المعجزات الإيمانية في الآفاق والأنفس، كما وعد الله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت: 53) . بل أن الإشارة الواضحة إلى أن المقصود بالعلماء الذين يخشون الله هـم العلماء المختصون بالعلوم الطبيعية، كعلم النبات والجيولوجيا والطب وعلم الأحياء والسلالات، والعلوم الاجتماعية، الذين يديمون البحث والنظر في عناصر الكون، وظواهر الاجتماع، وحركة التاريخ. فالآية التي أثبتت صفة الخشية للعلماء، جاءت بعد تقديم لمظاهر الكون وعناصر الوجود الحي القائم: ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) (فاطر: 27-28) . فالرسالة الإسلامية جاءت لتطور معجزات الرسالات بما يناسب الطور الجديد الذي دخلته البشرية. فلم تعد معجزة الرسالة الإلهية ناقة تولد من صخرة، أو عصا تنقلب إلى حية تسعى، أو أكمه تبرؤه مسحة يد، وما يشبه ذلك من المعجزات المفردة، المحدودة بحياة الرسول الذي يجيء بها، المحسوسة التي توافق الطفولة، والمراهقة الفكرية للإنسانية،وإنما صارت المعجزة رسوخا في العلم، بنشأة عوالم الكون والحياة، وتكوينها وتطورها، وصار حجمها يملأ الكون القائم، وتخطت حدود الزمان والمكان، وتجاوزت مرحلة الطفولة إلى النضج الفكري، الذي وقف الإنسان على أعتابه، [ ص: 120 ] وصارت تبرز من خلال نظر العقل البشري، دون أن تنحصر في نبي أو رسول. إن آيات الآفاق والنفس هـي هـذه المعجزة المستمرة التي لا تتوقف لحظة واحدة عن لفت العقول والأبصار والأسماع إلى العلاقة المتبادلة المستمرة، والى التطابق الكامل بين آيات الكتاب التي جاء بها الوحي، وآيات الآفاق والأنفس التي يكتشفها العلم في كل يوم.. والقرآن لا تخلو صفحة من صفحاته من الحث على تتبع مظاهر هـذه المعجزة العلمية في السموات، وفي الأرض، وفي النفس الإنسانية، وفي مفردات الخلق كلها. والقرآن لا يوجه العقل إلى تأمل غيب لا يقع تحت أسماعنا وأبصارنا وعقولنا، ولكن الغيب الذي يوجه الإسلام إليه هـو كائن موجود لم يأتنا تأويله بعد، وحين يأتي تأويله – أي بروزة إلى عالم الحس- فسوف نراه ونعايشه، وما الكهرباء والجاذبية والطاقة الذرية والطاقة الهيدروجينية ، وتطبيقات البث التلفزيوني، والاتصالات عبر القارات، والتلكس ، والكمبيوتر ، وأمثالها إلا محسوسات كانت في عالم الغيب، وسوف يتوالى انتقال المغيبات إلى عالم الحس، حتى يرى الإنسان كل ما وعد به الرسول وجاءت به الرسالة: ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) (الأعراف: 53) . لقد شرعت التربية الإسلامية في عصور الازدهار في تنمية القدرات التسخيرية اللازمة للنظر في آيات الكتاب أولا، ثم النظر في آيات الآفاق والأنفس ثانيا. وكان من ثمار هـذا الشروع، أن ارتقى المفكرون إلى المستوى الأعلى من مستوى القدرات العقلية، مستوى تبني المواقف العلمية من الكون المحيط. وبسبب هـذه المواقف ارتقوا إلى رتبة الاجتهاد المطلق ، وأطلقوا العنان لعقولهم للنظر في آيات الكتاب والسنة، فسبروا أغوارها في ضوء الواقع الذي يعيشونه. وكان من ثمار ذلك إخراج تلك الثروة الفقهية والعقائدية، التي قامت عليها مدارس الأصول والفقه والتربية، وكان من ثماره أيضا تلك التطبيقات الاجتماعية التي ارتقت بالمجتمع الإسلامي إلى تسلم القيادة الحضارية في الأرض كلها. [ ص: 121 ] كذلك ارتقى الناظرون في آيات الآفاق، إلى مستوى التفاعل والحوار المستمر مع الكون المحيط، باحثين عن شواهد صدق آيات الكتاب في آيات الكون.. وبسبب هـذا الموقف العلمي، انفتحوا على تراث الحضارات السابقة، وأخضعوه للمراجعة والبحث. وكان من ثمار ذلك، تلك الثروة العلمية التي كانت أساسا هـاما من أسس النهضة العلمية التي جعلت العالم الإسلامي آنذاك مصدر التكنولوجيا إلى غيره من الأقطار. ولكن المسيرة لم تستمر لتصل مداها، فمنذ القرن الرابع الهجري أخذت مؤسسات التربية الإسلامية تهمل المستوى الأعلى من تنمية القدرات العقلية، واكتفت بتنمية المستوى الأوسط، ونتيجة لذلك جاء جيل من المفكرين انحدر في قدراته العقلية عن مستوى (المواقف العلمية) التي تؤهل للكشف والابتكار، إلى مستوى الوقوف عند فهم القوانين والمبادئ والنظريات، دون قدرة على ابتكار جديد مثلها، وهو ماأسموه بـ " الإتباع " . فكان من ثمار ذلك: التطبيقات الفقهية والعلمية التي مثلتها مؤلفات المذاهب والمدارس التربوية المختلفة. ومع النزول إلى هـذا المستوى من القدرات التسخيرية ، بذرت بذور تقديس الآباء وتقليدهم، لأن الوقوف عند الأصول والنظريات، التي ابتكرها الآباء هـو افتراض الكمال والاستمرارية في علومهم، وقصر الابتكار عليهم. ثم تلا هـذا الجيل جيل ثالث بدأ منذ القرن الثامن الهجري واستمر حتى مطلع العصور الحديثة، وهو جيل نزل في تفكيره الى منزلة النظر في مؤلفات المذاهب والمدارس العلمية، والوقوف عندها، أو ماعرف بـ " التقليد " ، وأهمل جانب النظر في آيات الآفاق والأنفس –أي الجانب العلمي– إهمالا كاملا، بل راح يستعدي عليه الحكام، ويقلل من شأنه، ويصنفه في قائمة العلم الذي لا ينفع. وكان من ثمار ذلك ظهور الشروح والحواشي والتقارير، وتوقف الفقه عن الابتكار والتطبيق في ميدان العلوم الدينية، ثم إغلاق [ ص: 122 ] مختبرات البحث، وأكاديمية العلوم، وانحسارها الى مرتبة الاهتمامات الفردية دون النشاطات الاجتماعية. وهذا المستوى الأخير هـو الواقع الذي ورثته المؤسسات التربوية الإسلامية القائمة في العالم الإسلامي المعاصر, وهو واقع ما زال قائما تقريبا وإن أجريت عليه ما سمي (بالإصلاحات التعليمية) ، فهذه إصلاحات وقفت عند تبديل ألقاب المدرسين، وأسماء الشهادات، وأشكال الإدارة والأبنية والأدوات. ولكن جوهر المشكلة ظل قائما، وهو أن هـذه المؤسسات ما زالت تخرج فردا فاقدا للقدرات التسخيرية الإبداعية، أي عاجزا عن النظر في آيات الآفاق والأنفس، وعاجزا عن النظر في الكتاب والسنة، نظرا اجتهاديا. أي هـو عاجز عن إبراز معجزة الرسالة. وتزداد خطورة المشكلة التي تعانيها هـذه المؤسسات، حين نرى أن جمهرة العاملين فيها، والخريجين منها، لا يتوقفون عن مهاجمة العلم القائم والحضارة القائمة، كوسيلة لنصرة الرسالة، أي أنهم يدافعون عن رسالة الإسلام بمهاجمة معجزة هـذه الرسالة، ويرددون ما أفرزه العقل الأوروبي حول التناقض التاريخي، الذي قام بين العلم والدين في أوروبا وامتدادتها. إن العلم لا يكون –أبدا– ضد الرسالة الإسلامية، لأنه معجزتها – كما أسلفنا في السطور التي مضت – وينبغي أن لا يميل بنا الهوى لإدانة من يخاصموننا باسم العلم في إدانة العلم نفسه. فالعلم لا يكون سببا للضلال، وإنما سبب الضلال هـو نقص العلم، وإدراج الظنون في قائمة العلم. ولذلك بدل أن نهاجم العلم، يجب أن نسعى الى كشف العلم الناقص، والظن المدرج تحت اسم العلم، ونظهرهما على حقيقتهما. والقيام بهذا الواجب يحتاج الى تخريج علماء راسخين، يحاورون الفكر العالمي، بأحسن مما عنده، ويحتاج كذلك أن نعيد النظر في مفهوم العلم، وتصنيف المتعلمين فلا نسمح بالدخول في حرم العلم إلا لأولى الألباب، من الأذكياء الموهوبين؛ لأنهم وحدهم القادرون على التسخير وإبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم. كذلك الحضارة لا تكون –أبدا– ضد الرسالة، وأن من أهداف الرسالة أن [ ص: 123 ] تنقل الإنسان من التخلف الى الحضارة. بل أن الحضارة مقدمة ممهدة لمجيء المثل الأعلى – أي المبدأ الديني – وذلك ما يراه المؤرخ البريطاني توينبيToynbee حين ذكر أن الحضارة الرومانية بأمنها، وطرق مواصلاتها، ورقي مؤسساتها، كانت مقدمة سارت عليها الفكرة المسيحية، التي حملها المبشرون على الطرق الرومانية الآمنة. حتى جعلوا روما نفسها مركز الكنيسة. فإذا كان العلم معجزة الرسالة في الآفاق والأنفس، فإن الحضارة تقدم وسائل الاتصال والتبليغ الملائمة للوصول الى المجتمع البشري المعاصر للرسالة. وإن العلاقة بين القدرات العلمية، التي تفرز الحضارة، وبين إرادة المثل الأعلى، سببية طردية. فالقدرات العلمية هـي التي ترفع درجة إرادة المثل الأعلى عند الإنسان، ثم تعود الإرادة الى طلب مزيد من القدرة العلمية، ثم تحدث القدرة مزيدا من الإرادة. وهكذا يستمر التأثير المتبادل بين الاثنين، ويكون من ذلك تقدم العلم، الذي هـو العامل الرئيس في تقدم الإرادات والمجتمعات. إن التقهقر في الحضارات لا يحدث حين ينتشر العلم، ويتمتع الناس بثماره، كما يشاع بين بعض المؤرخين الذين ينظرون في المضاعفات، ويغفلون عن الأسباب الحقيقية. بل يحدث التقهقر حين تفشل نظم التربية في تنشئة أجيال لا يكون واضحا لديها أمر العلاقة بين القدرات التسخيرية ، وبين إرادة المثل الأعلى – أو المبدأ الديني – فيزهدون في العلم، ويعيشون بثماره، أو يقتصرون على جانب منه، فتبقى الإرادة عزلى عن قدرتها، وتبدأ في الضمور. وهكذا يقل العلم، فتقل إرادة المثل الأعلى، كما ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) [1] [ ص: 124 ] إن أساس الخطأ الذي يقع فيه بعض مؤرخي الحضارات حين يربطون بين التقدم العلمي، وبين تقهقر الحضارات والمجتمعات: الأول، أنهم يخلطون بين العلم والأدب العلمي، وبين الفن وأدب الأهواء والشهوات والإرادات الهابطة. ومثال ذلك ما يقوم به بعض المؤرخين، حين يربطون بين عصر الإمارات الضعيفة في الأندلس ، وبين ما يسمونه بازدهار الأدب والثقافة التي لم ترتفع عن مستوى الإرادات الضعيفة، والأهواء والشهوات السائدة، وإمكان التعبير عنها بأشكاله المختلفة، هـو ازدهار في حد ذاته. والأمر الثاني: هـو الخلط بين العلوم وبين التطبيقات المادية أو الصناعية للعلوم، فحين يتوقف التقدم العلمي تستمر تطبيقاته المادية زمنا بعده، بل إنها تشيع وتنتشر بسبب الإقبال على حياة الترف والشهوات. إن ما تحتاجه الرسالة الإسلامية هـو قيام مؤسسات تربوية تفرز نماذج جديدة من العلماء، الذين يحسنون إبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم، وتكون لهم الكفاءة العلمية، والتفكير العلمي، اللذان يؤهلانهم لاعتلاء المنابر الجديدة، التي أفرزها العلم في مسجد " قرية الكرة الأرضية " الطهور الذي خص الله به رسوله [2] منابر التلفزة، ومحطات الإرسال الفضائية، والطباعة العالمية، ويخاطبون الإنسانية بأحسن مما عندها علما، وفكرا، وأدبا. تحتاج الرسالة الإسلامية الى مؤسسات تربوية، ونظم، ومفاهيم، وتطبيقات تربوية جديدة، تتعايش مع المفاهيم الجديدة للعلم، التي تحكم على الأشياء بنتائجها المحسوسة، وثمراتها العلمية.. ومفهوم العلم هـذا هـو المناسب للإسلام، بل نحن نجد أدلة محسوسة لما يعطيه الإيمان للناس المؤمنين [ ص: 125 ] من الطمأنينة، والتخفيف عن الشقاء والعذاب، الذي يعاني منه من لا يؤمن بالله واليوم الآخر. بل إن العلم بالآخرة صار في قوة العلم التجريبي – كما يقول الأستاذ جودت سعيد – وصار مجاله يوسع، فبدل أن يكون هـذا المجال هـو غرفة المختبر، الذي تستخدم فيه الأنابيب والقناني، تحول الى مختبر الكون الفسيح، وأحداثه التاريخية والاجتماعية. وهذا ما يلائم المنهج الإسلامي الذي يطلب الى العالم أن يسير في الأرض، ويتبع التطور، الذي يعتري الكائنات، والظواهر، والأحداث، ابتداء من خلقها وتكوينها، حتى واقعها واحتمالات تطورها الأخرى:

( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) (العنكبوت: 20) .

فالذي تهدف إليه التربية الإسلامية – إذن – هـو أن يقدم الإيمان الى الناس بالصورة التي يقدم بها علم الجغرافيا أو الفلك، أو الكيمياء، أو الفيزياء، وبذلك يصير الإيمان علما. ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) (محمد: 19) .

ولكن التعليم الذي تقدمه المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي لا يبث في الفرد اكتساب ملكة البحث العلمي، وكشف القوانين. وهي لا توحي للدراس أن العلم قابل للزيادة، ولا تحثه على طلب المزايد منه. بل إنها توحي أنها ورثت العلم كاملا فلا يمكن المزيد عليه، وأن البحث انتهى مع " الآباء " الذين لم يتركوا شيئا إلا بحثوه، وفهموه، وليس على الدارس إلا أن يتملق عملهم، ويتغنى بإطرائهم. وبذلك تعكس هـذه المؤسسات معنى قوله تعالى:

( وقل رب زدني علما ) (طه: 114) .

وتعكس معنى قوله: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) (الكهف: 109) .

وقوله أيضا: ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) (لقمان: 27) . [ ص: 126 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية