الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- حقوق الأبناء، من الكتاب والسنة.. وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم:

لقد عد الإسلام الأبناء زينة من زينات الحياة الدنيا، فقال عز من قائل في كتابه الحكيم: ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) (الكهف:46)، كما عد طلب الذرية والرغبة في الولد والشوق إليه فطرة فطر الله الناس عليها، فيقول عز وجل على لسان زكريا، عليه السلام: ( وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) (مريم:5-7)، ويقول على لسان أبينا إبراهيم، عليه السلام: ( رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم ) (الصافات:100-101)، وطلب الولد الصالح دعوة عباد الرحمن الصالحين، قال تعالى: ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) (الفرقان:74). ويوضح ترجمان القرآن، ابن عباس، رضي الله عنهما، بأن قرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تبارك [1] . [ ص: 120 ]

فالأبناء نعمة من نعم الله عز وجل الكثيرة جدا، وهي نعمة تستحق الشكر للمنعم عز وجل، وينبغي أن يكون الشكر قولا وعملا.. شكر باللسان، وشكر بالعمل على إصلاح هؤلاء الأبناء ليكونوا لبنة صالحة في المجتمع المسـلم، فـلا إفراط ولا تفريط، لا إفراط في الحب والدلال لكي لا يصـل بـهم الأمر إلى أن يكونوا فتنة للمرء في دينه ودنياه، كما قال الحق عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم * إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) (التغابن:14-15)، وثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الولد مبخلة مجبنة ) [2] . وفي رواية أخرى عند الطبراني: ( إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة ) [3] .

وكما لا يكون الأمر إفراطا، فكذلك ينبغي أن ألا يكون هناك تفريط في تربية الوالدين لأولادهم، يقول الله عز وجل في محكم كتابه: ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (التحريم:6). [ ص: 121 ]

إن الإنسان يرى نفسه في أبنائه، وأنهم امتداد له، ولأسرته الكبيرة، وهـم كذلك إذا أحسن الإنسان تربيتهم كانوا له ذخرا وعملا صالحا ممتدا لا ينقطع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) [4] ، فالولد الصالح الذي يدعو لأبيه هو مما يخلد ذكر الرجل في الدنيا ويستفيد منه بالدعـاء في الآخـرة، ولكن ممـا تحسن الإشارة إليه أن الله عز وجل لم يفرق بين الذكر والأنثى، فالولد في لغة العرب تشمل الذكر والأنثى [5] .

والحديث قيده بالولد الصالح الذي يدعو لأبيه، وهذا يستلزم بذل الجهد من الوالدين إصـلاح الأبناء؛ لكي يكون ذكرهم في الحياة الدنيا ممتدا، وثوابهم في الحياة الآخرة كثيرا من الدعاء، الذي يلحقهما من ولدهما. وهي نتيجـة طبيعيـة، وعـادلة في الشـرع، فجزاء الإحسان الإحسان، كما قال عز وجل: ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) (الرحمن:60)، فكما تحسن في التربية يكون الجزاء بالثواب الوفير من دعاء الولد الصالح، وكما تدين تدان، فإن كان خيرا كان الخير بالخير والبادئ أكرم.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح بما يولد له من البنين أو البنات، ولقد كان من علامات ذلك أنه لما ذكرت السيدة عائشة، رضي الله عنها، السيدة [ ص: 122 ] خديجة، رضي الله عنها، بشيء من الكلام الذي يحدث بين الضرات، نتيجة للغيرة، أوضح لها صلى الله عليه وسلم سبب تفضيله لخديجة، رضي الله عنها، تروي السيدة عائشة، رضي الله عنها، ذلك الموقف قائلة: ( ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد ) [6] .

والشاهد ما ذكره صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث، فقد أوضح صلى الله عليه وسلم أن من أسباب تفضيله لخديجة، رضي الله عنها، أنها هي التي جاء له منها الولد، دون غيرها من زوجاته، رضي الله عنهن، وكما قال ابن حجر: إن ذلك من الأسباب التي جعلته صلى الله عليه وسلم يصرح بحبها ويقول: ( إني قد رزقت حبها ) [7] .

ومن علامات فرحه صلى الله عليه وسلم بالولد أنه لما بشره مولاه أبو رافع بمولد ابنه إبراهيم وهب له عبدا جزاء بشارته [8] ، وهي دليل فرحته، ولم تكن الهدية يسيرة، بل كانت عبدا، وهي تعد هدية قيمة بمقاييس ذلك العصر.

ومع كل هذه الفرحة بالذكر إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق في تعامله بين الذكر والأنثى، ومن هنا لا معنى لمن يفضل الذكر على الأنثى في وقتنا المعاصر، [ ص: 123 ] فهذه عادة جاهلية أبطلها الإسلام، ولعله لحكمة يعلمها الله عز وجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعش له من الولد إلا البنات، أما أولاده من الذكور فلم يعش منهـم أحد، بل قد يكون من رزقه الله من الذرية البنات فقط مقدما على من رزقهم ذكورا فقـط أو ذكورا وإناثا، وذلك وفق الترتيب في قول الله عز وجل: ( لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ) (الشورى:49-50).

يذكر الشوكاني في تفسير هذه الآية أن تقديم الإناث على الذكور قد يكون لكثرتهن، بالنسبة إلى الذكور، وقيل لتطييب قلوب آبائهن [9] . ولكن إلا يمكن أن يقال: إن إيراد الآية بهذا الترتيب في مجتمع كان يئد البنات له دلالة أكبر ممـا قاله الشـوكاني، رحمـه الله، وإلى شيء من ذلك يذهب ابن القيم، رحمه الله، حيث يقول: "إنه تعالى قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن، أي هذا النوع المؤخر الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر" [10] .

وبكل حال فقد أبطل الإسلام الخزي من الإناث، وتوعد بالأجر العظيم لمن عال ابنتين، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من عال [ ص: 124 ] جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه ) [11] . وعند الإمام أحمد في المسند أن الأجر حتى على ولو كانت بنتا واحدة فقط، فيروي أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن، فقال رجـل: أو ثنتان يا رسول الله؟ قال: أو ثنتان، فقـال رجل: أو واحدة يا رسول الله، قال: أو واحدة ) [12] .

لقد أكد الإسلام بداية على حسن اختيار الأم، وحدد المصطفى صلى الله عليه وسلم معايير الاختيار للزوجة، وهي أربعة محددات: الجمال، المال، النسب، الدين. ثم أبان صلى الله عليه وسلم المحدد الذي يجب أن يأخذ به الحريص على مستقبل حياته الزوجية، وكذلك شكل تربية الأبناء فيقول صلى الله عليه وسلم : ( تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) [13] . ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في اختيار زوجاته.. وحتى يحفظ الطفل من نزغات الشيطان وضع الإسلام آدابا للجماع، وسن دعاء يقال [ ص: 125 ] عند إتيـان الزوج زوجته، لتحصـين الطفل الوليد من مكر الشيطان، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبدا ) [14] .

وأكد الإسلام على اختيار الاسم الحسن للولد، ونهى عن القبيح من الأسماء، أو ما له دلالة سيئة، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم ) [15] ، وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض الأسماء، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ) [16] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حـارث وهمام، وأقبحـها حرب ومرة ) [17] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ولا تسمين غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجيـحا، ولا أفلح، فإنك تقول أثم هو فلا يكون فيقول لا ) [18] . [ ص: 126 ]

والحاصل من ذلك كله أن المطلوب من المسلم تحسين اسم ولده، ذكرا كان أم أنثى، والابتعاد به عن الأسماء المحرمة أو المستقبحة لما للاسم من أثر على المسمى، وقد فصل ابن القيم في هذه المسألة وأبان كيف يكون للاسم أثر في سلوك المسمى [19] . ومن الأمور المقرر شرعا على الوالد أن يوفر لولده الحقوق الأساسية والمتطلبات الضرورية للحياة من مأكل وملبس، ومأوى، وتعـليم، يحدوه في ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" [20] .

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر برحمـة الأطفال ومحبتهم، ففي الحـديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع ابن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحـدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يرحم ) [21] ، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى بيت فاطمة، رضي الله عنها، ليس له حاجة سوى تقبيل الحسن وهو طفل صغير، فيروي أبو هريرة رضي الله عنه ذلك الموقف قائلا: ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى أتى سوق بني قينقاع [ ص: 127 ] فجلس بفناء بيت فاطمة فقال: أثم لكع، أثم لكع، فحبسته شيئا، فظننت أنها تلبسه سخابا أو تغسله، فجاء يشتد حتى عانقه وقبله، وقال: اللهم أحببه وأحب من يحبه ) [22] . وصورة أخرى من صور محبته للأطفال ما يرويه البراء بن عازب رضي الله عنه قائلا: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي على عاتقه، يقول: اللهم إني أحبه فأحبه ) [23] .

وفي موقف آخر له صلى الله عليه وسلم مع ابنة بنته زينب، رضي الله عنها، وهي أمامة بنت أبي العاص، حيث صلى بالناس وهو يراعي طفولتها وضعفها، ففي الحديث المتفق عليه، الذي يرويه أبو قتادة قائلا: ( خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضع وإذا رفع رفعها ) [24] ، وفي رواية مسلم، يقول راوي الحديث: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس، وأمامة بنت أبي العاص، وهي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها ) [25] . فلم تكن صلاته صلى الله عليه وسلم [ ص: 128 ] نافلة، بل كانت صلاة فريضة، فقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب (العيال) أنه فعل صلى الله عليه وسلم ذلك في صلاة العصر [26] .

فأي رحمة، وأي محبة ألقاها الله عز وجل في قلبه للأطفال حتى يصل به الأمر أن يحمل الصغيرة في صلاته تأنيسا لقلب ذلك الصغير ورحمة بها.

ومن رحمتـه صلى الله عليه وسلم بالحسن والحسـين أنه كان يخـاف عليهما الشيطان فيعوذهما بالله منه، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) [27] .

وهذه الرحمة والمحبة للولد لم تمنعه صلى الله عليه وسلم من تأديبهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل، فيجيء هذا بتمره وهذا من تمره، حتى يصير عنده كوما من تمر، فجعل الحسن والحسين، رضي الله عنهما، يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه فقال: أما علمت أن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الصدقة ) [28] . ومن هذا الباب قال صلى الله عليه وسلم : ( وايم [ ص: 129 ] الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد يدها ) [29] . إذن هو حب لا يصـل بمن يحب، مع المحبوب إلى ارتكاب محذور شرعي بسبب ذلك الحب.

وكان صلى الله عليه وسلم يظهر محبته لأبنائه، ولا يتوارى في ذلك، فيروي الإمام مسلم في صحيحه أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان إبراهيم مسترضعا له في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن وكان ظئره قينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع ) [30] .

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالحسن والحسين وهو على المنبر إذ قطع خطبته ونزل لهما، ففي الحديث الذي يرويه أبو بريدة رضي الله عنه أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ) [31] . [ ص: 130 ]

وكان صلى الله عليه وسلم يهش إذا دخلت عليه ابنته فاطمة، رضي الله عنها، ويقوم لها، ويرحب بها، فتروي السيدة عائشة، رضي الله عنها، واصفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم إذا دخلت فتقول: ( أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ) [32] ، وكانت، رضي الله عنها، تفعل الشيء نفسه، فتحدث السيدة عائشة، رضي الله عنها، قائلة: ( كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها ) [33] . وأنعم بذلك من تربية، فتعلمت، رضي الله عنها، من أبيها حسن الأدب، وليس هذا فحسب، بل إنها تعلمت، رضي الله عنها، أن "مقام الأبوة لا يمنع من احترام الأبناء على قدم المساواة مع احترام الآخرين، وهذا مما يرفع من حرارة الاحترام والتقدير للأب في نفوس الأبناء" [34] .

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل بين الأولاد، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( اعدلوا بين أولادكم في العطية ) [35] ، ورفض صلى الله عليه وسلم أن يشهد على هبة أحد الصحابة لابنه، لما رأى أن الواهب خص بها ولدا واحدا دون بقية أولاده، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: ( أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، [ ص: 131 ] فالتوى بها سنة، ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذ غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أم هذا بنت رواحة، أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم، فقال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور ) [36] . ويبرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لواهب بتبرير عقلي مقنع حين قال له صلى الله عليه وسلم : ( أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذا ) [37] .

وكان يمازح الصبيان ويتنـزل إلى منزلتهم العقلية للتوسعة عليهم، فيروي أنس بن مالك رضي الله عنه قائلا عن تلك اللفتة الكريمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير ) [38] ، ومازح صلى الله عليه وسلم الربيع بن محمود رضي الله عنه وعمره خمس سنوات فيصف [ ص: 132 ] ذلك الموقف النبوي بقوله: ( عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو ) [39] . وكان صلى الله عليه وسلم يسلم على الصبيان ليرفع من قـدرهم عند أنفسـهم، فيروي أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على صبيان فسلم عليهم ) [40] . وعند ابن حجر في الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار فيسلم على صبيانهم ويمسح على رءوسهم ويدعو لهم [41] ، وفي النص دلالة على تكرار ذلك وليس مجرد واقعة فريدة، وفي ذلك من تواضعه صلى الله عليه وسلم ولين جانبه ما لا يمكن وصفه.

وكان صلى الله عليه وسلم يؤكد أن ينتهي مشوار تربية البنات بتزويجهن، ووعد الجنة لمن يفعل ذلك، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له ثلاث بنات يؤدبهن، ويزوجهن، ويكفهن، وجبت له الجنة البتة ) [42] . كما حث الآباء على البحث عن الأكفاء، فعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وأنكحوا [ ص: 133 ] إليهم ) [43] ، وفي الحديث الآخر قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) [44] .

فقد حدد صلى الله عليه وسلم مواصفات الخيرية في الزوج وهي الخلق والدين، وهكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم في تزويج بناته في حسن اختيار الأزواج لهن، ويختار بين المتقدمين الأنسب لهن، فقد خطب أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، فاطمة، رضي الله عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: ( إنها صغيرة"، فخطبها علي فزوجها منه. ) وقوله صلى الله عليه وسلم هذا القول لصاحبيه، رضي الله عنهما، لا يعني أنها ليست أهلا للزواج، وإنما صغيرة باعتبار فارق السن بينها وبين أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولـما تقدم علي رضي الله عنه ولم يكن زاد عمرها شيئا يذكر وافق على خطبتها له، ذلك لما بينهما من تقارب في السن" [45] .

وفي ذلك الموقف الحرص على اختيار الأنسب من جميع النواحي لزوج البنت. ويؤكد عـلى حسن الصحبـة لهن لمن رغب أن يتزوجهن، فيروي أبو هـريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقي عثمان عند باب المسجد، فقال: يا عثمان، هذا جبريل أخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق [ ص: 134 ] رقية على مثل صحبتها ) [46] ، أي بحسن الصحبة، التي كانت منك لرقية، رضي الله عنها.

وكان صلى الله عليه وسلم يتعاهدهن بالسؤال والزيارة، حتى بعد زواجهن، فيزورهن في منازلهن، ويتفقد أحوالهن، ويصلح فيما بينهن وبين أزواجهن إذا وجد إحداهن مغاضبة لزوجها، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم : ( جاء إلى بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو، فجاء، فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب ) [47] .

ففـي الحديث تعاهده صلى الله عليه وسلم لابنته وحرصه عليها حتى بعد زواجها، رضي الله عنها، فصلى الله عليه من أب رحيم ربى فأحسن التربية، ولـم يكتف بذلك، بل حرص على التعـاهد حتى بعد انتقالها إلى بيت الزوجية.

وكان من حرصه صلى الله عليه وسلم توصيته بالبنت المردودة، وهي المطلقة، فيقول صلى الله عليه وسلم لسراقة بن جعشم: ( ألا أدلك على أعظم الصدقة، أو من أعظم الصدقة؟ [ ص: 135 ] قال: بلى يا رسول الله. قال: بنتك المردودة إليك، ليس لها كاسب غيرك ) [48] . وهو بذلك يترجم بشكل عملي وصيته صلى الله عليه وسلم لأمته بالمرأة، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة ) [49] .

إن حسن التعامل مع الأبناء والأخذ في التعامل معهم بالمنهج النبوي، سوف ينتج عددا من الثمار الدنيوية والدينية. ومن ذلك:

- الاقتداء بسيرة الرسـول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأبناء، وفي ذلك لن يعدم الإنسان المسلم من أجر الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي نحن مأمورون بالاقتداء بسنته.

- إيجاد استقرار نفسي واجتماعي للأبناء في الأسرة، مما سينعكس بأثره على مستقبل حياتهم، وحسن تعاملهم مع أبنائهم، وإبراز النماذج الحسنة من الحياة الوالدية.

- العمل على استمرار عمل المسلم الصالح، حتى بعد مماته، فمن الأعمال التي لا تنقطع بعد الممات، الولد الصالح الذي يدعو لوالديه.

- في حسن تربية الأبناء إيجاد لقاعدة قوية وصلبة من أفراد الأمة الإسلامية، التي تنهض على عواتقهم استعادة مجد هذه الأمة. [ ص: 136 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية