الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مقدمة

إن معرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست نافلة من النوافل في حياة المسلم، بل هي فرض من الفروض، إذ نحن مأمورون بطاعته فيمـا أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، واتباع هديه صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، قال تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (الحشر:7)، وقال عز وجل: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21). وفي الحـديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دعوني ما تركتـكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) [1] وهذا لا يتحقق إلا بمعرفة سيرته، عليه الصلاة والسلام، جملة وتفصيلا. فسعادة العبد في الدارين معلقة بتتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يمكنه من الاقتداء به على بصيرة. [ ص: 31 ]

وما أجمل ما وصف ابن القيم حال المسلم مع نبيه، عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث يقول: "وعلى العبد أن يجعل النبي صلى الله عليه وسلم إمامه ومعلمه، وأستاذه، وشيخه وقدوته كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديا إليه، فيطالع سيرته ومبادئ أمره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه، وآدابه في حركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته، ومعاشرته لأهله وأصحابه، حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه" [2] .

إن في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نبراسا لكل مقتد، ولكل من يرنو لبلوغ مناه في تتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في يسر وسهولة ووضوح، منهجا في هذه الحياة الدنيا، فضلا عن الثواب المرتجى لمن يحتسب في عمله الاقتداء بسيرة المصطفى، فالأب، والأم، والمربي يجدون في سيرة المصطفى، عليه الصلاة والسلام، دروسا نبوية في التربية، والتعامل مع الآخرين، وكسب قلوب الناس، من خلال حسن الخلق، وفنون التعامل مع الآخرين، ومما يزيد هذه الدروس روعة أن البعد التنفيذي فيها والجانب العملي هو الطاغي في العملية التربوية النبوية، فهي ليس مجرد توجيهات عامة، بل وصولا إلى أدق التفاصيل، ونزولا لأدنى مستويات التعامل مع المستوى العمري، فالرسول صلى الله عليه وسلم داعب صغار الأطفال حتى من خارج بيته الشريف، ففي الحديث الذي [ ص: 32 ] يرويه البخاري أن ( محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو ) [3] .

إن هذه الممارسات النبوية، التي وصلت إلينا تتعلم منها الأمة بمختلف مستوياتها العمرية، والعلمية، والاجتماعية الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعبادة الصحيحة، لذا لا عجب أن يقول بعض السلف: "كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما السورة من القرآن" [4] . وكم نحن بحاجة في هذا العصر إلى تعلم سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدم الوقوف عند مجرد القراءة فحسب، بل انتقال للتطبيق، وعزم قوي على الممارسة، فالمجتمعات الإسلامية عطشى في وقتنا الحاضر إلى نبراس يقتدى وطريق يسلك لتحقيق الترابط الأسري المنشود، من خلال التعامل الحسن بين أفراد الأسرة الواحدة ابتداء، واختتاما بالمجتمع الكبير، ومرورا بمحيط الأسرة الأوسع من الأقارب وذوي الأرحام.

إن المجتمعات الإسلامية بما تعيشه من متغيرات اجتماعية، واقتصادية متلاحقة يعجز بعضها عن اللحوق بالآخر من سرعتها، بأمس الحاجة إلى وضوح المنهج النبوي في كيفية التعامل الأسري وكيفية تنفيذه من خلال الإطـلاع على التوجيهات النبوية، والممارسات العملية الصادرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ففي العصر الذي نعيشه الآن يلحظ كل مختص تعقد [ ص: 33 ] العلاقات الاجتماعية، وتزايد الاضطرابات النفسية جراء ذلك، وتتواصل العملية الاجتماعية لتصل بمستوى العلاقة الاجتماعية بين أفراد المجتمع إلى أدنى مستوياتها الأخلاقية، وهذا ما يؤكد حتمية السعي لتحقيق المنهج النبوي في التعامل بين أفراد المجتمع، سـواء بمستـواه الصغير على نطاق الأسرة وما يرتبط بهـا من علائق قرابية، أم على مستواه الأكبر في الحي ثم الأكبر في المدينة ثم الأمة.

إن المتأمل لواقع المجتمعات الإسلامية في جانبها التعاملي ليلحظ التناقض الكبير بين معتقد هذه المجتمعات الإسلامية، والممارسات اليومية، ففي الجـانب النظري نجـد التوجيـهات التي تحث على حسن الخلق مع جميع ما حول الإنسان المسلم حتى مع الجمادات، فعلى سبيل المثال، نجد في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، الذي يقول فيه: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) [5] ، وردت كلمة "كله" وهي عامة تشمل كل ما يخطر على البال من تعاملات المسلم مع من حوله، قال ابن حجر عند شرح الحديث أن المعنى: "أنه يتأتى معه - أي الرفق - من الأمور ما لا يتأتى مع ضده" [6] . وبكل حال، فهذا الحديث غيض من فيض من بحر التوجيهات الأخلاقية، [ ص: 34 ] التي يحث عليها الإسلام. إلا أن واقع الممارسات العملية يحكي - وللأسف - خلاف ذلك في غالبه العام، فما المشاكل التي تحصل بين الأسرة الواحدة وبين الأقارب والأرحام إلا نتيجة للابتعاد عن تحقيق هذه التوجيهات النبوية في التعامل مع الآخرين.

إن نسب الطلاق، التي تنشر بين الفينة والأخرى في المجتمعات الإسلامية لتصيب رؤوس عقلاء الأمة بالدوار، لما تظهره من تصاعد مطرد ومتزايد في نوعيتها، وكذلك في كميتها، وهذه المشكلات الأسرية المنتهية بالطلاق، أو حـتى التي لم تنته بالطـلاق وراءها ركام من سوء الخلق في التعـامل بين الزوجين جراء الابتعاد عن الهدي النبوي في التعامل بينهما. ولو كان الأمر يتوقف على مجرد الطلاق فقد يهون - إلى حد ما - ولكن المشكلات الأسرية، وحالات الطلاق، لها تبعاتها الاجتماعية من تشريد للأبناء وتهديد لهم بالانحراف، وضياع للمسؤولية بين الأبوين جراء إلقاء كل طرف التبعة على الآخر. وهناك العديد من الدراسات الميدانية، التي توضح أنه ثمة علاقة قوية بين انحراف الأبناء وتفكك الأسر سواء بطلاق أم بغيره من الأسباب [7] . وهذا ما يجعل الحاجة ماسة لالتزام الخلق الإسلامي في التعامل الأسري، وذلك بعد التعرف عليه. [ ص: 35 ]

وحين النظر في العلاقات الأسرية التبادلية بين الأبناء والآباء نجد أنها لا تخلو من وجود خلل بين في الممارسات فيما بينهم، فمن جانب قد نجد في المجتمعات الإسـلامية جـوانب من العقوق من قبل الأبناء تجاه والديهم، كما قد نجد جوانب من القصور في حقوق الأبناء من قبل الوالدين، سواء المادية أو العاطفية، فلا تزال المجتمعات الإسلامية على ما فيها من خيرية عامة تئن من وجود هذه العلاقة المتشنجة بين الأبوين والأبناء، ذكورا وإناثا، نتيجة لعدم التعرف على الكيفية التي يكون التعامل الأمثل فيها معهم، فظهر لدينا في المجتمع المسلم مظاهر من سوء التعامل من قبل الآباء، تجاه الأبناء ووجود لبعض التقصير في حقوقهم، مما أنتج لنا نبتة خبيثة من العقوق من قبل الأبناء تجاه الآباء، تتعاظم كلما ابتعد الطرفان عن المسلك النبوي في كيفية التعامل مع الآخر، وهذا يعطي دلالة على أهمية التعرف على الهدي النبوي في التعامل الأسري بين الآباء والأبناء، وصولا للأسرة المتراحمة والمتعاطفة فيما بينها.

وما من شك أن الناظر في سجلات المحاكم ليعجب من حجم المشكلات التي تحدث بين أفراد الأسرة الواحـدة جراء تنازع على إرث، أو أوقاف، أو وصايا، أو خلع، أو غيرها من القضايا، التي لم يخلو أي عصر منها، ولكن وجه الاختلاف بين ما كان يحدث في السابق واللاحق؛ هو التزام الخلق النبوي في التعامل معها، وبقدر القرب والبعد بين التزام المسلمين بهذه الأخلاق النبوية تكون المساحة في مواطن الاختلاف والتنازع والشقاق، [ ص: 36 ] فهي الحالقة التي أشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الترمذي، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة ) [8] .

وسوء ذات البين هي العداوة والبغضاء فيما بين المسلمين بمختلف مستوياتهم القرابية وعلاقاتهم الاجتماعية، إلا إنها تزداد مرارة حينما تكون بين أفراد العائلة الواحدة، أو أهل القبيلة الواحدة. وهذا دافع آخر لضرورة السعي الحثيث لنشر هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هذه الموضوعات العائلية وكيفية احتوائها لمنع استفحالها أو الوصول بها إلى أروقة المحاكم، فوصـولها إلى مجـالس القضـاء يعـني تقطـع العلاقات نهائيا، كما قال عمـر بن الخطـاب، رضـي الله عنه: "ردوا الخصـوم، فإن القضاء يورث الشنآن" [9] .

من هذا وذاك كانت هذه الدراسة، التي تهدف إلى التعرف على الهدي النبوي في التعامل الأسري، وما هي أخلاقه صلى الله عليه وسلم التي كان يدعو لها، ويحث المسلمين عليها، صباحا ومساء، سواء من كتاب الله عز وجل، أم من واقع سيرته العطرة، القولية منها والعملية، فلقد كان وكانت شريعته صلى الله عليه وسلم شاملة [ ص: 37 ] للخير كله، متوازنة في تحقيقها لمتطلبات الحياة، وهذا بخلاف الديانات السابقة، فموسى، عليه السلام، قد جاء بالأحكام، وداود امتاز بدعاء الله عز وجل واستشعار حلاوة مناجاته، و"عيسى بعث ليعلم الناس مكارم الأخلاق والزهد في الدنيا، وأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء بكل ذلك: بالأحكام، ودعاء الله، والتوجيه إلى مكارم الأخلاق، والحض على الزهد في الدنيا وزينتها، وكل هذا تجـده في القرآن الحكيم لفظا ومعنى، وفي السيرة المحمدية قدوة وعملا" [10] .

وسيكون التركيز على عرض الجوانب العملية في حياته صلى الله عليه وسلم ، من خلال مباحث الدراسة لرسم المنهج المحمدي في تكوين قاعدة عريضة من القواعد الأخلاقية للتعامل مع الآخرين في المحيط الأسري. [ ص: 38 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية