الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ومما يعدونه من محاسنها :


وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي



[ ص: 181 ]

فقلت له لما تمطى بصلبه     وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل     بصبح ، وما الإصباح فيك بأمثل



وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة :


كليني لهم يا أميمة ناصب     وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وصدر أراح الليل عازب همه     تضاعف فيه الحزن من كل جانب
تقاعس حتى قلت : ليس بمنقض     وليس الذي يتلو النجوم بآيب



وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء ، فقدمت أبيات امرئ القيس ، واستحسنت استعارتها ، وقد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه ، ويبطئ تقضيه ، وجعل له أردافا كثيرة ، وجعل له صلبا يمتد ويتطاول ، ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة ، ورأوا أن الألفاظ جميلة .

واعلم أن هذا صالح جميل ، وليس من الباب الذي يقال : إنه متناه عجيب ، وفيه إلمام بالتكلف ، ودخول في التعمل .

* * *

وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله :


وقد أغتدي والطير في وكناتها     بمنجرد قيد الأوابد هيكل



[ ص: 182 ]

مكر مفر مقبل مدبر معا     كجلمود صخر حطه السيل من عل



وقوله أيضا :


له أبطلا ظبي وساقا نعامة     وإرخاء سرحان وتقريب تتفل



فأما قوله " قيد الأوابد " ، فهو مليح ، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير ، والتعمل بمثله ممكن .

وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا ، ويؤلفون المحاسن تأليفا ، يوشحون به كلامهم . والذين كانوا من قبل - لغزارتهم - وتمكنهم - لم يكونوا يتصنعون لذلك ، وإنما كان يتفق لهم اتفاقا ، ويطرد في كلامهم اطرادا .

وأما قوله في وصفه : " مكر مفر " ، فقد جمع فيه طباقا وتشبيها . وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف .

وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد - صنعة . ولكن قد عورض فيه وزوحم عليه والتوصل إليه يسير ، وتطلبه سهل قريب .

وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة ، والسلاسة والانعقاد ، والسلامة والانحلال ، والتمكن والاستصعاب ، والتسهل والاسترسال ، والتوحش والاستكراه . وله شركاء في نظائرها ، ومنازعون في محاسنها ، ومعارضون في بدائعها . ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة ، ويذوب تارة ، ويتلون تلون الحرباء ، ويختلف اختلاف الأهواء ، ويكثر في تصرفه اضطرابه ، وتتفاذف به أسبابه . وبين قول يجرى في سبكه على نظام ، وفي رصفه على منهاج ، وفي وضعه على حد ، وفي صفائه على باب ، وفي [ ص: 183 ] بهجته ورونقه على طريق ، مختلفه مؤتلف ، ومؤتلفه متحد ، ومتباعده متقارب ، وشارده مطيع ، ومطيعه شارد . وهو على متصرفاته واحد ، لا يستصعب في حال ، ولا يتعقد في شأن .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية