الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        1470 - وكما حدثنا أبو بكرة قال : ثنا أبو داود قال : ثنا زائدة ، عن منصور ، عن تميم بن سلمة قال : سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت ، فذكر مثله إلا أنه قال : ( ما رأيت ولا علمت ) .

                                                        فوجه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه في هذا الباب أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة قنت حتى أنزل الله تعالى : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فترك لذلك القنوت الذي كان يقنته .

                                                        وسأله أبو مجلز فقال : آلكبر يمنعك من القنوت ؟ فقال : ما أحفظه من أحد من أصحابي ، يعني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي إنهم لم يفعلوه بعد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه .

                                                        وسأله أبو الشعثاء عن القنوت وسأله ابن عمر رضي الله عنه عن ذلك القنوت ما هو ، فأخبره أن الإمام إذا فرغ من القراءة في الركعة الآخرة من صلاة الصبح قام يدعو .

                                                        فقال : ما رأيت أحدا يفعله ؛ لأن ما كان هو علمه من قنوت النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان الدعاء بعد الركوع ، وأما قبل الركوع فلم يره منه ولا من غيره ، فأنكر ذلك من أجله .

                                                        فقد ثبت بما روينا عنه نسخ قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع ، ونفي القنوت قبل الركوع أصلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يفعله ولا خلفاؤه من بعده .

                                                        وكان أحد من روي عنه القنوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر فأخبر في حديثه الذي رويناه عنه بأن ما كان يقنت به رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء على من كان يدعو عليه ، وأن الله عز وجل نسخ ذلك بقوله : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم الآية ، ففي ذلك أيضا وجوب ترك القنوت في الفجر [ ص: 247 ] وكان أحد من روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا خفاف بن إيماء فذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما رفع رأسه من الركوع قال : أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وعصية عصت الله ورسوله ، اللهم العن بني لحيان ومن ذكر معهم .

                                                        ففي هذا الحديث لعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثي ابن عمر رضي الله عنهما وعبد الرحمن بن أبي بكر وقد أخبراهما في حديثهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك حين أنزلت عليه الآية التي ذكرنا .

                                                        ففي حديثهما النسخ كما في حديث خفاف بن إيماء فهما أولى من حديث ابن إيماء ، وفي ذلك وجوب ترك القنوت أيضا .

                                                        وكان أحد من روي عنه ذلك أيضا البراء ، فروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الفجر والمغرب ، ولم يخبر بقنوته ذلك ما هو ، فقد يجوز أن يكون ذلك القنوت الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما وعبد الرحمن بن أبي بكر ومن روى ذلك معهما ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية أيضا ، وقد قرن في هذا الحديث بين المغرب والفجر فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت فيهما .

                                                        ففي إجماع مخالفنا لنا ، على أن ما كان يفعله في المغرب من ذلك منسوخ ، ليس لأحد بعده أن يفعله ، دليل على أن ما كان يفعله في الفجر أيضا كذلك .

                                                        وكان أحد من روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا القنوت في الفجر أنس بن مالك رضي الله عنه .

                                                        فروى عمرو بن عبيد عن الحسن عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت بعد الركوع في صلاة الغداة حتى فارقه .

                                                        فأثبت في هذا الحديث القنوت في صلاة الغداة وأن ذلك لم ينسخ .

                                                        وقد روي عنه من وجوه ، خلاف ذلك ، فروى أيوب عن محمد بن سيرين قال : سئل أنس : أقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح فقال : نعم . فقيل له : قبل الركوع أو بعده ؟ فقال : بعد الركوع يسيرا .

                                                        وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه أنه قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحا ، على رعل وذكوان .

                                                        وروى قتادة عنه نحوا من ذلك .

                                                        وروى عنه حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قنت عشرين يوما .

                                                        فهؤلاء كلهم قد أخبروا عنه خلاف ما روى عمرو عن الحسن ، وقد روى عاصم عنه إنكار القنوت بعد الركوع أصلا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك شهرا ، ولكن القنوت قبل الركوع ، فضاد ذلك أيضا ما روى عمرو بن عبيد وخالفه .

                                                        [ ص: 248 ] فلم يجز لأحد أن يحتج في حديث أنس رضي الله عنه بأحد الوجهين مما روي عن أنس رضي الله عنه لأن لخصمه أن يحتج عليه بما روي عن أنس مما يخالف ذلك .

                                                        وأما قوله : ولكن القنوت قبل الركوع فلم يذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد يجوز أن يكون ذلك أخذه عمن بعده أو رأيا رآه .

                                                        فقد رأى غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك ، فلا يكون قوله أولى من قول من خالفه إلا بحجة تبين لنا .

                                                        فإن قال قائل : فقد روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : كنت جالسا عند أنس بن مالك رضي الله عنه فقيل له : إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا . فقال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة ، حتى فارق الدنيا .

                                                        قيل له : قد يجوز أن يكون ذلك القنوت هو القنوت الذي رواه عمرو عن الحسن عن أنس رضي الله عنه ، فإن كان ذلك كذلك فقد ضاده ما قد ذكرنا .

                                                        ويجوز أن يكون ذلك القنوت هو القنوت قبل الركوع الذي ذكره أنس رضي الله عنه في حديث عاصم .

                                                        فلم يثبت لنا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت قبل الركوع شيء ، وقد ثبت عنه النسخ للقنوت بعد الركوع .

                                                        وكان أبو هريرة رضي الله عنه أحد من روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا القنوت في الفجر ، فذلك القنوت هو دعاء لقوم ودعاء على آخرين .

                                                        وفي حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك حين أنزل الله عز وجل ليس لك من الأمر شيء الآية .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية