الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل .

وهذا أصل عظيم فيجب أن يعرف ، غلط فيه كثير من الناس ; فإن الله سبحانه أمر بما يحفظ به الحق فلا يحتاج معه إلى يمين صاحبه - وهو الكتاب والشهود - لئلا يجحد الحق أو ينسى ، ويحتاج صاحبه إلى تذكير من لم يذكر إما جحودا وإما نسيانا ، ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحق لم يقبل إلا هذه الطريق التي أمره أن يحفظ حقه بها .

فصل .

وإنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا لأنه مأمور فيه بالستر ، ولهذا غلظ فيه النصاب ، فإنه ليس هناك حق يضيع ، وإنما حد وعقوبة ، والعقوبات تدرأ بالشبهات ، بخلاف حقوق الله وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين ، ومعلوم أن شهادة العدل رجلا كان أو امرأة أقوى من استصحاب الحال ، فإن استصحاب الحال من أضعف البينات ، ولهذا يدفع بالنكول تارة وباليمين المردودة ، وبالشاهد واليمين ، ودلالة الحال ، وهو نظير رفع استصحاب الحال في الأدلة الشرعية بالعموم والمفهوم والقياس فيرفع بأضعف الأدلة ، فهكذا في الأحكام يرفع بأدنى النصاب ، ولهذا قدم خبر الواحد في أخبار الديانة على الاستصحاب مع أنه يلزم جميع المكلفين ، فكيف لا يقدم عليه فما هو دونه ؟ ولهذا كان الصحيح الذي دلت عليه السنة التي لا معارض لها أن اللقطة إذا وصفها واصف صفة تدل على صدقه دفعت إليه بمجرد الوصف ، فقام وصفه لها مقام الشاهدين ، بل وصفه لها بينة تبين صدقه وصحة دعواه ; فإن البينة اسم لما يبين الحق وقد اتفق العلماء على أن مواضع الحاجات يقبل فيها من الشهادات ما لا يقبل في غيرها من حيث الجملة ، وإن تنازعوا في بعض التفاصيل ، وقد أمر الله سبحانه بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة في الوصية في السفر منبها بذلك على نظيره وما هو أولى منه كقبول شهادة النساء منفردات في الأعراس والحمامات والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها ، ولا ريب أن قبول شهادتين هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر ، وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا ، فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم ، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفردات لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم ، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطؤا على خبر واحد ، وفرقوا وقت الأداء واتفقت كلمتهم ، فإن الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن [ ص: 77 ] الحاصل من شهادة رجلين ، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده ، فلا نظن بالشريعة الكاملة الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها تهمل مثل هذا الحق وتضيعه مع ظهور أدلته وقوتها ، وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك .

وقد روى أبو داود في سننه في قضية اليهوديين اللذين زنيا فلما شهد أربعة من اليهود عليهما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما ، وقد تقدم حكم النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأمة الواحدة على فعل نفسها ، وهو يتضمن شهادة العبد ، وقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة على شهادته فقال : ما علمت أحدا رد شهادة العبد ، وهذا هو الصواب ، فإنه إذا قبلت شهادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم يلزم الأمة فلأن تقبل شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئي أولى وأحرى ، وإذا قبلت شهادته على حكم الله ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى ، كيف وهو داخل في قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ؟ فإنه منا وهو عدل وقد عدله النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله } وعدلته الأمة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفتوى ، وهو من رجالنا فيدخل في قوله : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وهو مسلم فيدخل في قول عمر بن الخطاب " والمسلمون عدول بعضهم على بعض " وهو صادق فيجب العمل بخبره ، وأن لا يرد ، فإن الشريعة لا ترد خبر الصادق ، بل تعمل به ، وليس بفاسق ; فلا يجب التثبت في خبره وشهادته ، وهذا كله من تمام رحمة الله وعنايته بعباده ، وإكمال دينهم لهم ، وإتمام نعمته عليهم بشريعته ; لئلا تضيع حقوق الله وحقوق عباده مع ظهور الحق بشهادة الصادق ، لكن إذا أمكن حفظ الحقوق بأعلى الطريقين فهو أولى كما أمر بالكتاب والشهود لأنه أبلغ في حفظ الحقوق .

فإن قيل : أمر الأموال أسهل ; فإنه يحكم فيها بالنكول ، وباليمين المردودة ، وبالشاهد واليمين ، بخلاف الرجعة والطلاق .

قيل : هذا فيه نزاع ، والحجة أن تكون بنص أو إجماع ، وأما الشاهد واليمين فالحديث الذي في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { قضى بالشاهد واليمين } ليس فيه أنه في الأموال ، وإنما هو قول عمرو بن دينار ، ولو كان مرفوعا عن ابن عباس فليس فيه اختصاص الحكم بذلك في الأموال وحدها ، فإنه لم يخبر عن شرع عام شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأموال ، وكذلك سائر ما روي من حكمه بذلك إنما هو في قضايا معينة قضى فيها بشاهد ويمين ، وهذا كما لا يدل على اختصاص حكمه بتلك القضايا لا يقتضي اختصاصه بالأموال ، كما أنه إذا حكم بذلك في الديون لم يدل على أن الأعيان ليست [ ص: 78 ] كذلك ، بل هذا يحتاج إلى تنقيح المناط ، فينظر ما حكم لأجله إن وجد في غير محل حكمه عدي إليه .

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أن المرأة إذا أقامت شاهدا واحدا على الطلاق فإن حلف الزوج أنه لم يقض عليه ، وإن لم يحلف حلفت المرأة ويقضى عليه } ، وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة تصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتج بها ، وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى كأبي حاتم البستي وابن حزم وغيرهما ; وفي هذه الحكومة أنه يقضي في الطلاق بشاهد وما يقوم مقام شاهد آخر من النكول ويمين المرأة ، بخلاف ما إذا أقامت شاهدا واحدا وحلف الزوج أنه لم يطلق فيمين الزوج عارضت شهادة الشاهد ، وترجح جانبه بكون الأصل معه ; وأما إذا نكل الزوج فإنه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر ، ولكن هنا لم يقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداء ; لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلق أم لا ، وهو أحفظ لما وقع منه ، فإذا نكل وقام الشاهد الواحد وحلفت المرأة كان ذلك دليلا ظاهرا جدا على صدق المرأة .

فإن قيل : ففي الأموال إذا قام شاهد وحلف المدعي حكم له ، ولا تعرض اليمين على المدعى عليه ; وفي حديث عمرو بن شعيب { إذا شهد الشاهد الواحد وحلف الزوج أنه لم يطلق لم يحكم عليه } .

قيل : هذا من تمام حكمة هذه الشريعة وجلالتها ، أن الزوج لما كان أعلم بنفسه هل طلق أم لا ، وكان أحفظ لما وقع منه وأعقل له وأعلم بنيته ، وقد يكون قد تكلم بلفظ مجمل أو بلفظ يظنه الشاهد طلاقا وليس بطلاق ، والشاهد يشهد بما سمع ، والزوج أعلم بقصده ومراده ، جعل الشارع يمين الزوج معارضة لشهادة الشاهد الواحد ، ويقوي جانبه الأصل واستصحاب النكاح ، فكان الظن المستفاد من ذلك أقوى من الظن المستفاد من مجرد الشاهد الواحد ، فإذا نكل قوي الأصل في صدق الشاهد ، فقاوم ما في جانب الزوج ، فقواه الشارع بيمين المرأة ، فإذا حلفت مع شاهدها ونكول الزوج قوي جانبها جدا ، فلا شيء أحسن ولا أبين ولا أعدل من هذه الحكومة ، وأما المال المشهود به فإن المدعي إذا قال : أقرضته أو بعته أو أعرته ، أو قال : غصبني أو نحو ذلك ، فهذا الأمر لا يختص بمعرفته المطلوب ، ولا يتعلق بنيته وقصده ، وليس مع المدعى عليه من شواهد صدقه ما مع الزوج من بقاء عصمة النكاح ، وإنما معه مجرد براءة الذمة ، وقد عهد كثرة اشتغالها بالمعاملات ، [ ص: 79 ] فقوي الشاهد الواحد والنكول أو يمين الطالب على رفعها ، فحكم له ، فهذا كله مما يبين حكمة الشارع ، وأنه يقضي بالبينة التي تبين الحق وهي الدليل الذي يدل عليه ، والشاهد الذي يشهد به ، بحسب الإمكان ، بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه حكم بشهادته وحده ، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك ودفع إليه سلبه بشهادته وحده ، ولم يحلف أبا قتادة ، فجعله بينة تامة ، وأجاز شهادة خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته للأعرابي ، وجعل شهادته بشهادتين لما استندت إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به ، فإذا شهد المسلمون ، بأنه صادق في خبره عن الله فبطريق الأولى يشهدون أنه صادق عن رجل من أمته ، ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه " الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عرف صدقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية