الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    69 - ( فصل )

                    الطريق التاسع الحكم بالنكول مع الشاهد الواحد ، لا بالنكول المجرد : ذكر ابن وضاح عن أبي مريم ، عن عمرو بن سلمة ، عن زهير بن محمد ، عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه [ عن جده ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا ادعت المرأة طلاق زوجها ، فجاءت على ذلك بشاهد واحد عدل استحلف زوجها ، فإن حلف بطلت عنه شهادة الشاهد ، وإن نكل [ ص: 133 ] فنكوله بمنزلة شاهد آخر ، وجاز طلاقه } . فتضمن هذا الحكم ثلاثة أمور : أحدها : أنه لا يكتفى بشهادة الواحد في الطلاق ، ولا مع يمين المرأة .

                    قال الإمام أحمد : الشاهد واليمين إنما يكون في الأموال خاصة ، لا يقع في حد ، ولا في طلاق ، ولا نكاح ، ولا عتاقة ، ولا سرقة ، ولا قتل .

                    وقد نص في رواية أخرى على أن العبد إذا ادعى أن سيده أعتقه وأتى بشاهد : حلف مع شاهده ، وصار حرا ، واختاره الخرقي ، ونص في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه ، وكانا معسرين عدلين : فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ، ويصير حرا ، ويحلف مع أحدهما ، ويصير نصفه حرا . ولكن لا يعرف عنه أن الطلاق يثبت بشاهد ويمين . وقد دل حديث عمرو بن شعيب هذا على أنه يثبت بشاهد ونكول الزوج .

                    وعمرو بن شعيب قد احتج به الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الحديث كالبخاري وحكاه عن علي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، والحميدي ، وقال : فمن الناس بعدهم ؟ وزهير بن محمد الراوي عن ابن جريج ثقة محتج به في " الصحيحين " ، وعمرو بن أبي سلمة من رجال " الصحيحين " أيضا ، فمن احتج بحديث عمرو بن شعيب فهذا من أصح حديثه .

                    الثاني : أن الزوج يستحلف في دعوى الطلاق إذا لم تقم المرأة بينة ، لكن إنما استحلفه لأن شهادة الشاهد الواحد أورثت ظنا ما بصدق المرأة ، فعورض هذا باستحلافه ، وكان جانب الزوج أقوى بوجود النكاح الثابت ، فشرعت اليمين في جانبه ، لأنه مدعى عليه ، والمرأة مدعية . فإن قيل : فهلا حلفت مع شاهدها وفرق بينهما ؟ فالجواب : أن اليمين مع الشاهد لا تقوم مقام شاهد آخر ، لما تقدم من الأدلة على ذلك ، واليمين مجرد قول المرأة ، ولا يقبل في الطلاق أقل من شاهدين ، كما أن ثبوت النكاح لا يكتفى فيه إلا بشاهدين ، أو بشاهد وامرأتين على رواية ، فكان رفعه كإثباته ، فإن الرفع أقوى من الإثبات ، ولهذا لا يرفع بشهادة فاسقين ، ولا مستوري الحال ، ولا رجل وامرأتين .

                    الثالث : أنه يحكم في الطلاق بشاهد ونكول المدعى عليه ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يحكم [ ص: 134 ] بوقوعه بمجرد النكول من غير شاهد ، فإذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق ، وأحلفناه لها - على إحدى الروايتين - فنكل : قضى عليه فإذا أقامت شاهدا واحدا ، ولم يحلف الزوج على عدم دعواها : فالمقضي عليه بالنكول في هذه الصورة أولى . وظاهر الحديث : أنه لا يحكم على الزوج بالنكول إلا إذا أقامت المرأة شاهدا ، كما هو إحدى الروايتين عن مالك ، وأنه لا يحكم عليه بمجرد دعواها مع النكول ، لكن من يقضي عليه به يقول : النكول إما إقرار وإما بينة ، وكلاهما يحكم به ، ولكن ينتقض هذا عليه بالنكول في دعوى القصاص . وقد يجاب عنه بأن النكول بذل استغنى به فيما يباح بالبذل ، وهو الأموال وحقوقها ، بخلاف النكاح وتوابعه .

                    الرابع : أن النكول بمنزلة البينة ، فلما أقامت شاهدا واحدا - وهو شطر البينة - كان النكول قائما مقام تمامها . ونحن نذكر مذاهب الناس في القول بهذا الحديث .

                    فقال ابن الجلاب في تفريعه : إذا ادعت المرأة الطلاق على زوجها لم تحلف بدعواها ، فإذا أقامت على ذلك شاهدا واحدا لم تحلف مع شاهدها ، ولم يثبت الطلاق على زوجها . وهذا الذي قاله لا يعلم فيه نزاع بين الأئمة الأربعة ، قال : ولكن يحلف لها زوجها ، فإن حلف : برئ من دعواها .

                    قلت : هذا فيه قولان للفقهاء ، وهما روايتان عن أحمد ، إحداهما : أنه يحلف لدعواها ، وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة .

                    والثانية : لا يحلف . فإن قلنا : لا يحلف فلا إشكال ، وإن قلنا : يحلف فنكل عن اليمين : فهل يقضي عليه بطلاق زوجته بالنكول ؟ فيه روايتان عن مالك . إحداهما : أنه يطلق عليه بالشاهد والنكول ، عملا بهذا الحديث ، وهذا اختيار أشهب ، وهذا في غاية القوة ، لأن الشاهد والنكول سببان من جهتين مختلفتين ، يقوى جانب المدعى بهما ، فحكم له ، فهذا مقتضى الأثر والقياس .

                    والرواية الثانية عنه : أن الزوج إذا نكل عن اليمين حبس ، فإن طال حبسه ترك . واختلفت الرواية عن الإمام أحمد : هل يقضي بالنكول في دعوى المرأة الطلاق ؟ على روايتين ، ولا أثر عنده لإقامة الشاهد الواحد .

                    واختلف عن مالك في مدة حبسه ، فقال مرة : يحبس حتى يطول أمره ، وحد ذلك بسنة ، ثم يطلق ، ومرة قال : يسجن أبدا حتى يحلف .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية