الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الرابع : عن حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن رواية طاوس عن ابن عباس مخالفة لما رواه عنه الحفاظ من أصحابه ، فقد روى عنه لزوم الثلاث دفعة سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، ومالك بن الحارث ، ومحمد بن إياس بن البكير ، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري ، كما نقله البيهقي في " السنن الكبرى " والقرطبي وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 128 ] وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : إن البخاري لم يخرج هذا الحديث ; لمخالفة هؤلاء لرواية طاوس ، عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - طلاق الثلاث واحدة ، بأي شيء تدفعه ؟ قال : برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ، وكذلك نقل عنه ابن منصور ، قاله ابن القيم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده ، وتغير عقائده ، أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - قال للأثرم وابن منصور : إنه رفض حديث ابن عباس قصدا ; لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد ; لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، وهو هو ، ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمدا ; لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد . ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك ، فإن قيل : رواية طاوس في حكم المرفوع ، ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس ، والمرفوع لا يعارض بالموقوف .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ، ففيه للعلماء قولان : وهما روايتان عن أحمد رحمه الله : الأولى : أنه لا يحتج بالحديث ; لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به ، وهو عدل عارف ، وعلى هذه الرواية فلا إشكال .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله . فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى ، أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله ، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى ، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة ، كما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج ، فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة ؛ يدل على أن معنى الحديث الذي روي ليس [ ص: 129 ] كونها بلفظ واحد كما سترى بيانه في كلام القرطبي في المفهم في الجواب الذي بعد هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى في الثلاث بفم واحد أنها واحدة ، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، أن ابن عباس قال : إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة ، فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب ، عن عكرمة ، أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس ، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل ، في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية