الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              أخبرنا محمد بن أحمد ، وحدثني عنه عثمان بن محمد - قبل أن لقيته - ثنا أبو العباس بن مسروق ، قال : سمعت الحارث بن أسد ، يقول : " من عدم الفهم عن الله فيما وعظ لم يحسن أن يستجلب وعظ حكيم ، ومن خرج من سلطان الخوف إلى عزة الأمن اتسعت به الخطايا إلى مواطن الهلكة ، فكشفت عنه ستر العدالة ، وفضحته شواهد العزة ، فلا يرى جميلا يرغب فيه ، ولا قبيحا يأنف عنه ، فتبسط نفسه إلى ري الشهوات ، ولا تميل إلى لذيذ الراحات ، فيستولي عليه الهوى ، فينقص قدره عند سيده ، ويشين إيمانه ، ويضعف يقينه " .

              أخبرنا محمد بن أحمد ، وحدثني عنه عثمان ، ثنا أبو العباس بن مسروق ، قال : سئل الحارث بن أسد عن الزهد في الدنيا ، قال : " هو عندي العزوف عن الدنيا ولذاذتها وشهواتها ، فتنصرف النفس ، ويتعزز الهم ، وانصراف النفس ميلها إلى ما دعا الله إليها بنسيان ما وقع به من طباعها ، واعتزاز الهم الانقطاع إلى خدمة المولى ، يضن بنفسه عن خدمة الدنيا مستحيا من الله أن يراه خادما لغيره ، فانقطع إلى خدمة سيده ، وتعزز بملك ربه ، فترحل الدنيا عن قلبه ، ويعلم أن في خدمة الله شغلا عن خدمة غيره ، فيلبسه الله رداء عمله ، ويعتقه من عبوديتها ، واعتز أن يكون خادما للدنيا لعزة العزيز الذي أعزه بالاعتزاز عنها ، فصار غنيا من غير مال ، وعزيزا من غير عشيرة ، ودرت ينابيع الحكمة من قلبه ، ونفذت بصيرته ، وسمعت همته ، ووصل بالوهم إلى منتهى أمنيته ، فترقى وارتفع ووصل إلى روح الفرج من هموم الأطماع ، وعذاب [ ص: 86 ] الحرص .

              وقيل له : كيف تفاوت الناس في الزهد ؟ قال : على قدر صحة العقول وطهارة القلوب ، فأفضلهم أعقلهم ، وأعقلهم أفهمهم عن الله ، وأفهمهم عن الله أحسنهم قبولا عن الله ، وأحسنهم قبولا عن الله أسرعهم إلى ما دعا الله - عز وجل - وأسرعهم إلى ما دعا الله - عز وجل - أزهدهم في الدنيا ، وأزهدهم في الدنيا أرغبهم في الآخرة ، فبهذا تفاوتوا في العقول ، فكل زاهد زهده على قدر معرفته ، ومعرفته على قدر عقله ، وعقله على قدر قوة إيمانه ، فمن استولى على قلبه وهمه علم كشف الآخرة ، ونبهه التصديق على القدوم عليها ، وتبين بقلبه عوار الدنيا ، ودله بصائر الهدى على سوء عواقبها ، ومحبة اختيار الله في تركها ، والموافقة لله في العزوف عنها ، ترحلت الدنيا عن قلب هذا الموفق .

              وسئل عن علامة الصادق ، فقال : أن يكون بصواب القول ناطقا ، لسانه محزون ، ونطقه بالحق موزون ، طاهر القلب من كل دنس ، ومصاف مولاه في كل نفس " .

              أخبرنا محمد - في كتابه - قال : أنبأنا أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : قال الحارث بن أسد : " المنقطع إلى الله - عز وجل - عن خلقه ، ظاهره ظاهر أهل الدنيا ، وباطنه باطن المجلين الهائبين لربهم ؛ لأنه صرف قلبه إلى ربه فاشتغل بذكر رضاه عن ذكر رضا خلقه ، فطاب في الدنيا عيشه ، وتطهر من آثامه ، وأنزل الخلق بالمنزلة التي أنزلهم ربهم ، عبيدا إذ لا يملكون له ضرا ولا نفعا ، فآثر رضاء الله على رضاهم ، فسخت نفسه بطلب رضى الله ، وإن سخط جميع خلق الله ، يرضي الله بسخط كل أحد ، ولا يسخط الله برضى أحد من خلقه ، فملاك أمره في جميع ذلك ترك الاشتغال ، والتثبيت لمراقبة الرقيب عليه ، فلا يعجل فيسخطه عليه .

              وقال : أسرع الأشياء عظة للقلب وانكسارا له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له ، وأسرع الأشياء إماتة للشهوات لزوم القلب الأحزان ، وأكثر الأشياء صرفا إزالة الاشتغال بالدنيا من القلوب عند المعاينة والمباشرة لها ، والاعتبار بها والنظر إلى ما غاب من الآخرة ، وأسرع الأشياء هيجانا للتعظيم لله من القلب تدبر الآيات ، والدلائل في التدبير المحكم ، والصنعة المحكمة [ ص: 87 ] المتقنة من السماء والأرض ، وما بث بينهما من خلقه دلائل ناطقة وشواهد واضحة أن الذي دبرها عظيم قدره ، نافذة مشيئته ، عزيز في سلطانه ، وأشد الأشياء للقلب عن التشاغل بالدنيا الكمد من بعد الحزن ، وأبعث الأشياء على سخاء النفوس بترك الشهوات الشوق إلى لقاء العزيز الكبير ، وأشد الأشياء إزالة للمكابدات في علو الدرجات في منازل العبادات لزوم القلب محبة الرحمن ، وأنعم الأشياء لقلوب العابدين ، وأدومها لها سرورا الشوق إلى قرب الله ، واستماع كلامه ، والنظر إلى وجهه ، وأظهرها لقلوب المريدين التوبة النصوح منهم للعرض على رب العالمين ، فتلك طهارة المتقين ، ومن بعدها طهارة المحبين ، وهو قطع الأشغال لكل شيء من الدنيا عن محبوبهم ، فإذا طهرت القلوب من كل شيء سوى الله خلا من ذكر كل قاطع عن الله ، وزال عنه كل حاجب يحجب عنه ، فتم بالله سروره ، وصفا ذكره في قلبه ، واستنار له سبيل الاعتبار ، فكانت الدنيا وأهلها عينا ينظر بها إلى ما سترته الحجب من الملكوت ، فحينئذ دام بالله شغله ، وطال إليه حنينه ، وقرت بالله عينه ، فالحزن والكمد قد أشغلا قلبه ، والمحبة والشوق قد أشخصا إلى الله فؤاده ، فشوقه إلى طلب القرب ، والحزن أن يحال بينه وبينه " .

              أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : قلت للحارث بن أسد : ما المزهود من أجله ؟ قال : " الذي تجانب الدنيا من أجله خمسة أشياء : أحدها أنها مفتنة مشغلة للقلوب عنه ، ، والثانية أنها تنقص غدا من درجات من ركن إليها ، فلا يكون له من الدرجات كمن زهد فيها ، والثالثة أن تركها قربة وعلو عنده في درجات الجنة ، والرابعة الحبس في القيامة وطول الوقوف ، والسؤال عن شكر النعيم بها ، وفي واحدة من هذه الخصال ما يبعث المريد اللبيب على رفضها ، ليشتري بها خيرا منها ، والخامسة -أعظم ما رفضوا من أجله- موافقة الرب في محبته : أن يصغروا ما صغر الله ، ويقللوا ما قلل الله ، ويبغضوا ما أبغض الله ، ويرفضوا ما أحب الله رفضه ، لو لم ينقصهم من ذلك ، [ ص: 88 ] ولم يشغلهم في دنياهم عن طاعته ، ولم يغفلوا عن شكره ، وكان ثواب الرافض لها في الآخرة ، والراكن إليها واحدا ، وكان الله - عز وجل - أهلا أن يبغض ما أبغض ، ويتهاون بما أهان عليه ، وذلك زهد المحبين له ، المعظمين المجلين ، وقد دل الله - عز وجل - على هذه الخمس خصال بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما نطق به أهل الخاصة من عباده الحكماء العلماء " .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصر - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت أبا عثمان البلدي ، يقول : بلغني عن الحارث بن أسد ، أنه قال : " العلم يورث المخافة ، والزهد يورث الراحة ، والمعرفة تورث الإنابة ، وخيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم ، ولا دنياهم عن آخرتهم ، ومن صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة ، ومن اجتهد في باطنه ورثه الله حسن معاملة ظاهره ، ومن حسن معاملته في ظاهره مع جهد باطنه ورثه الله الهداية إليه ؛ لقوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) الآية " .

              أخبرنا محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ، قال : قال الحارث بن أسد ، وسئل : بم تحاسب النفس ؟ قال : " بقيام العقل على حراسة جناية النفس ، فيتفقد زيادتها من نقصانها ، فقيل له : ومم تتولد المحاسبة ؟ قال : من مخاوف النقص وشين البخس والرغبة في زيادة الأرباح ، والمحاسبة تورث الزيادة في البصيرة ، والكيس في الفطنة ، والسرعة إلى إثبات الحجة ، واتساع المعرفة ، وكل ذلك على قدر لزوم القلب للتفتيش ، فقيل له : من أين تخلف العقول والقلوب عن محاسبة النفوس ؟ قال : من طريق غلبة الهوى والشهوة ; لأن الهوى والشهوة يغلبان العقل والعلم والبيان ، وسئل : مم يتولد الصدق ؟ قال : من المعرفة بأن الله يسمع ويرى ، وخوف السؤال عن مثاقيل الذر من إرسال اللفظ ، وخلف الوعد ، وتأخير الضمان ، فالمعرفة أصل للصدق ، والصدق أصل لسائر أعمال البر ، فعلى قدر قوة الصدق يزداد العبد في سائر أعمال البر ، [ ص: 89 ] وسئل عن الشكر ما هو ؟ قال : علم المرء بأن النعمة من الله وحده ، وأن لا نعمة على خلق من أهل السماوات والأرض إلا وبدائعها من الله ، فشكر الله عن نفسه وعن غيره ، فهذا غاية الشكر ، وسئل عن الصبر ، قال : هو المقام على ما يرضي الله تبارك وتعالى بترك الجزع وحبس النفس في مواضع العبودية مع نفي الجزع ، فقيل له : فما التصبر ؟ قال : حمل النفس على المكاره ، وتجرع المرارات ، وتحمل المؤن ، واحتمال المكابدات لتمحيص الجنايات ، وقبول التوبة ، لأن مطلب المتصبر تمحيص الجنايات رجاء الثواب ، ومطلب الصابر بلوغ ذرى الغايات ، والمتصبر يجد كثيرا من الآلام ، والصابر سقط عنه عظيم المكابدات ; لأن مطلبه العمل على الطيبة والسماحة لعلمه بأن الله ناظر إليه في صبره ، وأنه يعينه ، وأن صبره لمولاه لما يرضي مولاه عنه ، فاحتمل المؤن ، وفيه يقول الحكيم :


              رضيت وقد أرضى إذا كان مسخطي من الأمر ما فيه رضا من له الأمر     وأشجيت أيامي بصبر حلون لي
              عواقبه والصبر مثل اسمه صبر



              قيل : فكيف السبيل إلى مقام الرضا ؟ قال : علم القلب بأن المولى عدل في قضائه غير متهم ، وأن اختيار الله له خير له من اختياره لنفسه ، فحينئذ أبصرت العقول وأيقنت القلوب ، وعلمت النفوس ، وشهدت لها العلوم أن الله أجرى بمشيئته ما علم أنه خير لعبده في اختياره ومحبته ، وعلمت القلوب أن العدل من واحد ليس كمثله شيء ، فخرست الجوارح من الاعتراض على من قد علمت أنه عدل في قضائه غير متهم في حكمه ، فسر القلب من قضائه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية