الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (260) قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم : في العامل في "إذ" ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه قال: "أولم تؤمن" أي: قال له ربه وقت قوله ذلك. والثاني: أنه "ألم تر" أي: ألم تر إذا قال إبراهيم. والثالث: أنه مضمر تقديره: واذكر. فـ "إذ" على هذين القولين مفعول به لا ظرف. و "رب" منادى مضاف لياء المتكلم، حذفت استغناء عنها بالكسرة قبلها، وهي اللغة الفصيحة، وحذف حرف النداء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "أرني" تقدم ما فيه من القراءات والتوجيه في قوله: "أرنا". والرؤية هنا بصرية تتعدى لواحد، ولما دخلت همزة النقل أكسبته مفعولا ثانيا، والأول ياء المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية [ ص: 573 ] و "رأى" البصرية تعلق كما تعلق "نظر" البصرية، ومن كلامهم: "أما ترى أي برق ههنا".

                                                                                                                                                                                                                                      و "كيف" في محل نصب: إما على التشبيه بالظرف، وإما على التشبيه بالحال كما تقدم في "كيف تكفرون". والعامل فيها "تحيي" وقدره مكي: بأي حال تحيي الموتى، وهو تفسير معنى لا إعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "قال أولم تؤمن" في هذه الواو وجهان، أظهرهما: أنها للعطف قدمت عليها همزة الاستفهام لأنها لها صدر الكلام كما تقدم تحريره غير مرة، والهمزة هنا للتقرير، لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1061 - ألستم خير من ركب المطايا وأندى العاملين بطون راح

                                                                                                                                                                                                                                      [و]: "ألم نشرح لك صدرك"، المعنى: أنتم خير، وقد شرحنا.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها واو الحال، دخلت عليها ألف التقرير، قاله ابن عطية، وفيه نظر من حيث إنها إذا كانت للحال كانت الجملة بعدها في محل نصب، وإذا كانت كذلك استدعت ناصبا وليس ثم ناصب في اللفظ، فلا بد من تقديره: والتقدير "أسألت ولم تؤمن"، فالهمزة في الحقيقة إنما دخلت على العامل في الحال. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهر الأول، ولذلك أجيبت بـ بلى، وعلى ما قال ابن عطية يعسر هذا المعنى. وقوله "بلى" جواب [ ص: 574 ] للجملة المنفية وإن صار معناها الإثبات اعتبارا باللفظ لا بالمعنى، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانب اللفظ دون المعنى، نحو: "سواء عليهم أأنذرتهم" وقد تقدم تحقيقه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ليطمئن" اللام لام كي، فالفعل منصوب بعدها بإضمار "أن"، وهو مبني لاتصاله بنون التوكيد، واللام متعلقة بمحذوف بعد "لكن" تقديره: ولكن سألتك كيفية الإحياء للاطمئنان، ولا بد من تقدير حذف آخر قبل "لكن" حتى يصح معه الاستدراك والتقدير: بلى آمنت وما سألت غير مؤمن، ولكن سألت ليطمئن قلبي.

                                                                                                                                                                                                                                      والطمأنينة: السكون، وهي مصدر "اطمأن" بوزن اقشعر، وهي على غير قياس المصادر، إذ قياس "اطمأن" أن يكون مصدره على الاطمئنان. واختلف في "اطمأن" هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من "طأمن"، فالفاء طاء، والعين همزة، واللام ميم، فقدمت اللام على العين فوزنه: افلعل بدليل قولهم: طامنته فتطامن. ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب، وكأنه يقول: إن اطمأن وطأمن مادتان مستقلتان، وهو ظاهر كلام أبي البقاء، فإنه قال: "والهمزة في "ليطمئن" أصل، ووزنه يفعلل، ولذلك جاء "فإذا اطمأننتم" مثل: اقشعررتم". انتهى. فوزنه على الأصل دون القلب، وهذا غير بعيد، ألا ترى أنهم في جبذ وجذب قالوا: ليس أحدهما مقلوبا من الآخر لاستواء المادتين في الاستعمال. ولترجيح كل من المذهبين موضع غير هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 575 ] قوله: "من الطير" في متعلقه قولان، أحدهما: أنه محذوف لوقوع الجار صفة لـ أربعة، تقديره: أربعة كائنة من الطير. والثاني: أنه متعلق بـ خذ، أي: خذ من الطير.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الطير" اسم جمع كركب وسفر. وقيل: بل هو جمع طائر نحو: تاجر وتجر، وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفف من "طير" بتشديد [الياء] كقولهم: "هين وميت" في: هين وميت. قال أبو البقاء: "هو في الأصل مصدر طار يطير، ثم سمي به هذا الجنس". فتحصل فيه أربعة أقوال.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء جره بـ "من" بعد العدد على أفصح الاستعمال، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية، ويجوز الإضافة كقوله تعالى: "تسعة رهط"، وقال:


                                                                                                                                                                                                                                      1062 - ثلاثة أنفس وثلاث ذود     لقد جار الزمان على عيالي

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم أن إضافته نادرة لا يقاس عليها، وبعضهم أن اسم الجمع لما يعقل مؤنث، وكلا الزعمين ليس بصواب، لما تقدم من الآية الكريمة، واسم الجمع لما لا يعقل يذكر ويؤنث، وهنا جاء مذكرا لثبوت التاء في عدده.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فصرهن" قرأ حمزة بكسر الصاد، والباقون بضمها وتخفيف [ ص: 576 ] الراء. واختلف في ذلك فقيل: القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنى واحد، وذلك أنه يقال: صاره يصوره ويصيره، بمعنى قطعه أو أماله فاللغتان لفظ مشترك بين هذين المعنيين، والقراءتان تحتملهما معا، وهذا مذهب أبي علي. وقال الفراء: "الضم مشترك بين المعنيين، وأما الكسر فمعناه القطع فقط". وقال غيره: "الكسر بمعنى القطع والضم بمعنى الإمالة". ونقل عن الفراء أيضا أنه قال: "صاره" مقلوب من قولهم: "صراه عن كذا" أي: قطعه عنه. ويقال: صرت الشيء فانصار أي: قالت الخنساء:


                                                                                                                                                                                                                                      1063 - فلو يلاقي الذي لاقيته حضن     لظلت الشم منه وهي تنصار

                                                                                                                                                                                                                                      أي: تنقطع. واختلف في هذه اللفظة: هل هي عربية أو معربة؟ فعن ابن عباس أنها معربة من النبطية، وعن أبي الأسود أنها من السريانية، والجمهور على أنها عربية لا معربة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "إليك" إن قلنا: إن "صرهن" بمعنى أملهن تعلق به، وإن قلنا: إنه بمعنى قطعهن تعلق بـ "خذ".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس: "فصرهن" بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها، من: صره يصره إذا جمعه; إلا أن مجيء المضعف المتعدي على يفعل بكسر العين في المضارع قليل. ونقل أبو البقاء عمن شدد الراء أن منهم من يضمها، ومنهم من يفتحها، ومنهم من يكسرها مثل: "مدهن" فالضم على الإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 577 ] ولما فسر أبو البقاء "فصرهن" بمعنى "أملهن" قدر محذوفا بعده تقديره: فأملهن إليك ثم قطعهن، ولما فسره بقطعهن قدر محذوفا يتعلق به "إلى" تقديره: قطعهن بعد أن تميلهن [إليك]. ثم قال: "والأجود عندي أن يكون "إليك" حالا من المفعول المضمر تقديره: فقطعهن مقربة إليك أو ممالة أو نحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ثم اجعل"" جعل" يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء فيتعدى لواحد وهو "جزءا"، فعلى هذا يتعلق "على كل" و "منهن" بـ اجعل، وأن يكون بمعنى "صير" فيتعدى لاثنين فيكون "جزءا" الأول، و "على كل" هو الثاني، فيتعلق بمحذوف. و "منهن" يجوز أن يتعلق على هذا بمحذوف على أنه حال من "جزءا" لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها نصب حالا. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولا لـ "اجعل" يعني إذا كانت "اجعل" بمعنى "صير" فيكون "جزءا" مفعولا أول، و "منهن" مفعولا ثانيا قدم على الأول، ويتعلق حينئذ بمحذوف. [ولا بد من حذف صفة مخصصة بعد] قوله: "كل جبل" تقديره: "على كل جبل بحضرتك، أو يليك" حتى يصح المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور: "جزءا" بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضم الزاي، وأبو جعفر شدد الزاي من غير همز، ووجهها أنه لما حذف الهمزة وقف على الزاي ثم ضعفها كما قالوا: "هذا فرج"، ثم أجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: "هزوا". وفيه لغة أخرى وهي: كسر [ ص: 578 ] الجيم. قال أبو البقاء: "ولا أعلم أحدا قرأ بها. والجزء: القطعة من الشيء، وأصل المادة يدل على القطع والتفريق ومنه: التجزئة والأجزاء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "يأتينك" جواب الأمر، فهو في محل جزم، ولكنه بني لاتصاله بنون الإناث. قوله: "سعيا" فيه أوجه، أحدها: أنه مصدر واقع موقع الحال من ضمير الطير، أي: يأتينك ساعيات، أو ذوات سعي. والثاني: أن يكون حالا من المخاطب، ونقل عن الخليل ما يقوي هذا، فإنه روي عنه: "أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعيا" فعلى هذا يكون "سعيا" منصوبا على المصدر، وذلك الناصب لهذا المصدر في محل نصب على الحال من الكاف في "يأتينك". قلت: والذي حمل الخليل - رحمه الله - على هذا التقدير أنه لا يقال عنده: "سعى الطائر" فلذلك جعل السعي من صفات الخليل عليه السلام لا من صفة الطيور. والثالث: أن يكون "سعيا" منصوبا على نوع المصدر، لأنه نوع من الإتيان، إذ هو إتيان بسرعة، فكأنه قيل: يأتينك إتيانا سريعا. وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا، لأن السعي والإتيان يتقاربان"، وهذا فيه نظر; لأن المصدر المؤكد لا يزيد معناه على معنى عامله، إلا أنه تساهل في العبارة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية