الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (267) قوله تعالى: أنفقوا من طيبات ما كسبتم : في مفعول "أنفقوا" قولان، أحدهما: أنه المجرور بـ "من"، و "من" للتبعيض أي: أنفقوا بعض ما رزقناكم، والثاني: أنه محذوف قامت صفته مقامه، أي: شيئا مما رزقناكم، وتقدم له نظائر. و "ما" يجوز أن تكون موصولة اسمية. والعائد محذوف لاستكمال الشروط، أي: كسبتموه، وأن تكون مصدرية [ ص: 600 ] أي: من طيبات كسبكم، وحينئذ لا بد من تأويل هذا المصدر باسم المفعول أي: مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى.

                                                                                                                                                                                                                                      و "مما أخرجنا" عطف على المجرور بـ "من" بإعادة الجار، لأحد معنيين: إما التأكيد وإما للدلالة على عامل آخر مقدر، أي: وأنفقوا مما أخرجنا. ولا بد من حذف مضاف، أي: ومن طيبات ما أخرجنا. و "لكم" متعلق بـ "أخرجنا"، واللام للتعليل. و "من الأرض" متعلق بـ "أخرجنا" أيضا، و "من" لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا تيمموا الخبيث" الجمهور على "تيمموا"، والأصل: تتيمموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفا: إما الأولى وإما الثانية، وقد تقدم تحرير القول فيه عند قوله: "تظاهرون".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ البزي هنا وفي مواضع أخر بتشديد التاء، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية، وجاز ذلك هنا وفي نظائره; لأن الساكن الأول حرف لين، وهذا بخلاف قراءته "نارا تلظى"" إذ تلقونه" فإنه فيه جمع بين ساكنين والأول حرف صحيح، وفيه كلام أهل العربية يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس والزهري "تيممو" بضم التاء وكسر الميم الأولى وماضيه: يمم، فوزن "تيمموا" على هذه القراءة: تفعلوا من غير حذف، وروي عن عبد الله "تؤمموا" من أممت أي قصدت.

                                                                                                                                                                                                                                      والتيمم: القصد، يقال: أم كرد، وأمم كأخر، ويمم، وتيمم بالتاء [ ص: 601 ] والياء معا، وتأمم بالتاء والهمزة، وكلها بمعنى قصد. وفرق الخليل - رحمه الله - بينها بفروق لطيفة فقال: "أممته قصدت أمامه، ويممته: قصدت... ويممته: قصدته من أي جهة كان.

                                                                                                                                                                                                                                      والخبيث والطيب: صفتان غالبتان لا يذكر موصوفهما: قال: "الخبيثون للخبيثات"، "والطيبون للطيبات"، "ويحرم عليهم الخبائث"، قال عليه السلام: "من الخبث والخبائث".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "منه تنفقون"" منه" متعلق بتنفقون، وتنفقون في محل نصب على الحال من الفاعل "تيمموا" أي: لا تقصدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حال مقدرة، لأن الإنفاق منه يقع بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره. والثاني: أنها حال من الخبيث، لأن في الجملة ضميرا يعود إليه أي: لا تقصدوا منفقا منه. والثالث: أنه مستأنف ابتداء إخبار بذلك، وتم الكلام عند قوله: "ولا تيمموا الخبيث" ثم ابتدأ خبرا آخر، فقال: تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم، كأن هذا عتاب للناس وتقريع، وهذا يرده المعنى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولستم بآخذيه" فيها قولان، أحدهما: أنها مستأنفة لا محل لها، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنها في محل نصب على الحال، ويظهر [ ص: 602 ] هذا ظهورا قويا عند من يرى أن الكلام قد تم عند قوله: "ولا تيمموا الخبيث" وما بعده استئناف، وقد تقدم تفسير معناه.

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في "بآخذيه" تعود على "الخبيث" وفيها وفي نحوها من الضمائر المتصلة باسم الفاعل قولان مشهوران، أحدهما: أنها في محل جر وإن كان محلها منصوبا لأنها مفعول في المعنى. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محل نصب، وإنما حذف التنوين والنون في نحو: "ضاربيك" للطافة الضمير، ومذهب هشام أنه يجوز ثبوت التنوين مع الضمير، فيجيز: "هذا ضاربنك" بثبوت التنوين، وقد يستدل لمذهبه بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1074 - هم الفاعلون الخير والآمرونه ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      1075 - ولم يرتفق والناس محتضرونه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين وبين الضمير. ولهذه الأقوال أدلة مذكورة في كتب القوم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا أن تغمضوا" الأصل: إلا بأن، فحذف حرف الجر مع "أن" فيجيء فيها القولان: أهي في محل جر أم نصب؟ وهذه الباء تتعلق "تيمموا"" بآخذيه". وأجاز أبو البقاء أن تكون "أن" وما في حيزها في محل نصب [ ص: 603 ] على الحال، والعامل فيها "آخذيه". والمعنى: لستم بآخذيه في حال من الأحوال إلا في حال الإغماض، وقد تقدم أن سيبويه لا يجيز أن تقع "أن" وما في حيزها موقع الحال. وقال الفراء: "المعنى على الشرط والجزاء; لأن معناه: إن أغمضتم أخذتم، ولكن لما وقعت "إلا" على "أن" فتحها، ومثله: "إلا أن يخافا"" إلا أن يعفون". وهذا قول مردود عليه في كتب النحو.

                                                                                                                                                                                                                                      والجمهور على "تغمضوا" بضم التاء وكسر الميم مخففة من "أغمض" وفيه وجهان، أحدهما: أنه حذف مفعوله، تقديره: تغمضوا أبصاركم أو بصائركم. والثاني: في معنى ما لا يتعدى، والمعنى إلا أن تغضوا، من قولهم: "أغضى عنه".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الزهري: "تغمضوا" بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة ومعناها كالأولى. وروي عنه أيضا "تغمضوا" بفتح التاء وسكون الغين وفتح الميم، مضارع "غمض" بكسر الميم، وهي لغة في "أغمض" الرباعي، فيكون مما اتفق فيه فعل وأفعل. وروي عن اليزيدي "تغمضوا" بفتح التاء وسكون الغين وضم الميم. قال أبو البقاء: "وهو من غمض يغمض كـ ظرف يظرف، أي: خفي عليكم رأيكم فيه".

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن الحسن: "تغمضوا" بضم التاء وفتح الغين وفتح الميم [ ص: 604 ] مشددة على ما لم يسم فاعله. وقتادة كذلك إلا أنه خفف الميم، والمعنى: إلا أن تحملوا على التغافل عنه والمسامحة فيه. وقال أبو البقاء في قراءة قتادة: "ويجوز أن يكون من أغمض أي: صودف على تلك الحال كقولك: أحمدت الرجل أي: وجدته محمودا" وبه قال أبو الفتح. وقيل فيها أيضا: إن معناها إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية