الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (282) قوله تعالى: إلى أجل : متعلق بـ تداينتم، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لدين. و "مسمى" صفة لدين، فيكون قد قدم الصفة المؤولة على الصريحة وهو ضعيف، فكان الوجه الأول أوجه. و "تداين" تفاعل من الدين كتبايع من البيع، يقال: داينت الرجل أي: عاملته بدين، وسواء كنت معطيا أم آخذا، قال رؤبة:


                                                                                                                                                                                                                                      1121 - داينت أروى والديون تقضى فمطلت بعضا وأدت بعضا

                                                                                                                                                                                                                                      ويقال: دنت الرجل: إذا بعته بدين، وأدنته أنا: أخذت منه بدين، ففرقوا بين فعل وأفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فاكتبوه" الضمير يعود على "بدين" وإنما ذكر قوله "بدين" ليعيد عليه هذا الضمير، وإن كان الدين مفهوما من قوله: "تداينتم"، أو لأنه قد [ ص: 651 ] يقال: تداينوا أي: جازى بعضهم بعضا فقال: "بدين" ليزيل هذا الاشتراك، أو ليدل به على العموم، أي: أي دين كان من قليل وكثير.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "إلى أجل" على سبيل التأكيد، إذ لا يكون الدين إلا مؤجلا، وألف "مسمى" منقلبة عن ياء، تلك الياء منقلبة عن واو، لأنه من التسمية، وقد تقدم أن المادة من سما يسمو.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بالعدل" فيه أوجه، أحدها: أن يكون الجار متعلقا بالفعل قبله. قال أبو البقاء: "بالعدل" متعلق بقوله: فليكتب، أي: ليكتب بالحق، فيجوز أن يكون حالا أي: ليكتب عادلا، ويجوز أن يكون مفعولا به أي: بسبب العدل". قوله أولا: "بالعدل متعلق بقوله فليكتب" يريد التعلق المعنوي; لأنه قد جوز فيه بعد ذلك أن يكون حالا، وإذا كان حالا تعلق بمحذوف لا بنفس الفعل. وقوله: "ويجوز أن يكون مفعولا" يعني فتتعلق الباء حينئذ بنفس الفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يتعلق بـ "كاتب". قال الزمخشري: "متعلق بـ كاتب صفة له، أي: كاتب مأمون على ما يكتب" وهو كما تقدم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطية: "والباء متعلقة بقوله: "وليكتب"، وليست متعلقة بقوله "كاتب" لأنه كان يلزم ألا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد".

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن تكون الباء زائدة، تقديره: فليكتب بينكم كاتب العدل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 652 ] قوله: "أن يكتب" مفعول به أي: لا يأب الكتابة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "كما علمه الله" يجوز أن يتعلق بقوله: "أن يكتب" على أنه نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير: أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله، أو أن يكتبه أي: الكتب مثل ما علمه الله. ويجوز أن يتعلق بقوله "فليكتب" بعده.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "والظاهر تعلق الكاف بقوله: "فليكتب" وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلقا بقوله: "فليكتب" لكان النظم فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: - بعد أن ذكر تعلقه بأن يكتب، وبـ "فليكتب" - "فإن قلت: أي فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له: فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها، وإن علقته بقوله: "فليكتب" فقد نهى عن الامتناع بالكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة" ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: لا يأب، وتكون الكاف حينئذ للتعليل. قال ابن عطية: "ويحتمل أن يكون "كما" متعلقا بما في قوله "ولا يأب" من المعنى أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه". قال الشيخ: "وهو خلاف الظاهر، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل" قلت: وعلى القول بكونها متعلقة [ ص: 653 ] بقوله: "فليكتب" يجوز أن تكون للتعليل أيضا، أي: فلأجل ما علمه الله فليكتب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة: "فليكتب" بتسكين اللام كقولهم: "كتف" في كتف، إجراء للمنفصل مجرى المتصل. وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وليملل" أمر من أمل يمل، فلما سكن الثاني جزما جرى فيه لغتان: الفك وهو لغة الحجاز، والإدغام وهو لغة تميم، وكذا إذا سكن وقفا نحو: أملل عليه وأمل، وهذا مطرد في كل مضاعف وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتي: "من يرتدد، ويرتد" في المائدة وعلة كل لغة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ هنا شاذا: "وليمل" بالإدغام، ويقال: أمل يمل إملالا، وأملى يملي إملاء. ومن الأولى قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1122 - ألا يا ديار الحي بالسبعان     أمل عليها بالبلى الملوان

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الثانية قوله تعالى: "فهي تملى عليه"، ويقال: أمللت وأمليت، فقيل: هما لغتان، وقيل: الياء بدل من أحد المثلين، وأصل المادتين: الإعادة مرة بعد أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الحق" يجوز أن يكون مبتدأ، و "عليه" خبر مقدم، ويجوز أن يكون [ ص: 654 ] فاعلا بالجار قبله لاعتماده على الموصول، والموصول هو فاعل "يملل" ومفعوله محذوف أي: وليملل الديان الكاتب ما عليه من الحق، فحذف المفعولين للعلم بهما. ويتعدى بـ "على" إلى إحداهما: فيقال: أمللت عليه كذا، ومنه الآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا يبخس منه" يجوز في "منه" أن يكون متعلقا بـ يبخس، و "من" لابتداء الغاية، والضمير في "منه" للحق. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف لأنها في الأصل صفة للنكرة، فلما قدمت على النكرة نصبت حالا.

                                                                                                                                                                                                                                      و "شيئا": إما مفعول به وإما مصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      والبخس: النقص، يقال منه: بخس زيد عمرا حقه يبخسه بخسا، وأصله من: بخست عينه، فاستعير منه بخس الحق، كما قالوا: "عورت حقه" استعارة من عور العين. ويقال: بخصته بالصاد. والتباخس في البيع: التناقص، لأن كل واحد من المتبايعين ينقص الآخر حقه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن يمل هو" أن وما في حيزها في محل نصب مفعولا به، أي: لا يستطيع الإملال، و "هو" تأكيد للضمير المستتر. وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، قاله الشيخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ بإسكان هاء "هو" وهي قراءة ضعيفة لأن هذا الضمير كلمة مستقلة منفصلة عما قبلها. ومن سكنها أجرى المنفصل مجرى المتصل، وقد تقدم تحقيق هذا في أول هذه السورة. قال الشيخ: "وهذا أشذ من قراءة [ ص: 655 ] من قرأ: "ثم هو يوم القيامة" قلت: فجعل هذه القراءة شاذة وهذه أشذ منها، وليس بجيد، فإنها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارئ أهل المدينة فيما رواه عنه قالون، وهو أضبط رواته لحرفه، وقرأ بها الكسائي أيضا وهو رئيس النحاة.

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في "وليه" للذي عليه الحق إذا كان متصفا بإحدى الصفات الثلاث. وقوله "بالعدل" كما تقدم في نظيره فلا حاجة إلى إعادته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "واستشهدوا" يجوز أن تكون السين على بابها من الطلب أي: اطلبوا شهيدين، ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل، نحو: استعجل بمعنى أعجل، واستيقن بمعنى أيقن وفي قوله: "شهيدين" تنبيه على أنه ينبغي أن يكون الشاهد ممن تتكرر منه الشهادة حيث أتى بصيغة المبالغة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من رجالكم" يجوز أن يتعلق بـ استشهدوا، وتكون "من" لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشهيدين و "من" تبعيضية.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فإن لم يكونا رجلين" جوزوا في "كان" هذه أن تكون الناقصة وأن تكون التامة، وبالإعرابين يختلف المعنى: فإن كانت ناقصة فالألف اسمها، وهي عائدة على الشهيدين أي: فإن لم يكن الشاهدان رجلين، والمعنى على هذا: إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له، وإن كانت تامة فيكون "رجلين" نصبا على الحال المؤكدة كقوله: "فإن كانتا اثنتين"، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدم الرجال. والألف في "يكونا" عائدة على "شهيدين"، تفيد الرجولية، والتقدير: فإن لم يوجد الشهيدان رجلين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 656 ] قوله: "فرجل وامرأتان" يجوز أن يرتفع ما بعد الفاء على الابتداء والخبر محذوف تقديره: فرجل وامرأتان يكفون في الشهادة، أو مجزئون ونحوه. وقيل: هو خبر والمبتدأ محذوف تقديره: فالشاهد رجل وامرأتان وقيل: بل هو مرفوع بفعل مقدر تقديره: فيكفي رجل أي: شهادة رجل، فحذف المضاف للعلم به، وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: تقديره الفعل: فليشهد رجل، وهو أحسن، إذ لا يحوج إلى حذف مضاف، وهو تقدير أبي القاسم الزمخشري. وقيل: هو مرفوع بـ كان الناقصة، والتقدير: فليكن ممن يشهدون رجل وامرأتان. وقيل: بل بالتامة وهو أولى، لأن فيه حذف فعل فقط بقي فاعله، وفي تقدير الناقصة حذفها مع خبرها، وقد عرف ما فيه، وقيل: هو مرفوع على ما لم يسم فاعله، تقديره: فليستشهد رجل. قال أبو البقاء: "ولو كان قد قرئ بالنصب لكان التقدير: فاستشهدوا" قلت: وهو كلام حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ: "وامرأتان" بسكون الهمزة التي هي لام الكلمة، وفيها تخريجان، أحدهما: أنه أبدل الهمزة ألفا، وليس قياس تخفيفها ذلك، بل بين بين، ولما أبدلها ألفا همزها كما همزت العرب نحو: العألم والخأتم وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1123 - وخندف هامة هذا العألم      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى في قراءة ابن ذكوان: "منسأته" في سبأ.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 657 ] وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجه، ونحا إلى القياس فقال: "ووجهه أنه خفف الهمزة - يعني بين بين - فقربت من الألف، والمقربة من الألف في حكمها; ولذلك لا يبتدأ بها، فلما صارت كالألف قلبها همزة ساكنة كما قالوا: خأتم وعألم.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن يكون قد استثقل توالي الحركات، والهمزة حرف يشبه حرف العلة فتستثقل عليها الحركة فسكنت لذلك. قال الشيخ: "ويمكن أن سكنها تخفيفا لتوالي كثرة الحركات، وقد جاء تخفيف نظير هذه الهمزة في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1124 - يقولون جهلا ليس للشيخ عيل     لعمري لقد أعيلت وأن رقوب

                                                                                                                                                                                                                                      يريد: وأنا رقوب، فسكن همزة "أنا" بعد الواو، وحذف ألف "أنا" وصلا على القاعدة. قلت: قد نص ابن جني على أن هذا الوجه لا يجوز فقال: "ولا يجوز أن يكون سكن الهمزة لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة" وهذا منأبي الفتح محمول على الغالب، وإلا فقد تقدم لنا آنفا في قراءة الحسن "ما بقي من الربا" وقبل ذلك أيضا الكلام على هذه المسألة، وورود ذلك في ألفاظ نظما ونثرا، حتى في الحروف الصحيحة السهلة، فكيف بحرف ثقيل يشبه السفلة؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 658 ] قوله: "ممن ترضون" فيه أوجه، أحدها: أنه في محل رفع نعتا لرجل وامرأتين. والثاني: أنه في محل نصب لأنه نعت لشهيدين. واستضعف الشيخ الوجه الأول قال: "لأن الوصف يشعر اختصاصه بالموصوف، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن "شهيدين"، واستضعف الثاني أبو البقاء قال: "للفصل الواقع بينهما". الوجه الثالث: أنه بدل من قوله "من رجالكم" بتكرير العامل، والتقدير: "واستشهدوا شهيدين ممن ترضون"، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يضعفه بما ضعف وجه الصفة، وهو للفصل بينهما، وضعفه الشيخ بأن البدل يؤذن أيضا بالاختصاص بالشهيدين الرجلين فيعرى عنه رجل وامرأتان. وفيه نظر، لأن هذا من بدل البعض إن أخذنا "رجالكم" على العموم، أو الكل من الكل إن أخذناهم على الخصوص، وعلى كلا التقديرين فلا ينفي ذلك عما عداه، وأما في الوصف فمسلم، لأن لها مفهوما على المختار، الرابع: أن يتعلق بـ استشهدوا، أي: استشهدوا ممن ترضون. قال الشيخ: "ويكون قيدا في الجميع، ولذلك جاء متأخرا بعد الجميع".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "من الشهداء" يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف، والتقدير: ممن ترضونه حال كونه بعض الشهداء. ويجوز أن يكون بدلا من "من" بإعادة العامل، كما تقدم في نفس "ممن ترضون"، فيكون هذا بدلا من بدل على أحد القولين في كل منهما.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن تضل" قرأ حمزة بكسر "إن" على أنها شرطية، والباقون [ ص: 659 ] بفتحها، على أنها المصدرية الناصبة، فأما القراءة الأولى فجواب الشرط فيها قوله "فتذكر"، وذلك أن حمزة رحمه الله يقرأ: "فتذكر" بتشديد الكاف ورفع الراء فصح أن تكون الفاء وما في حيزها جوابا للشرط، ورفع الفعل لأنه على إضمار مبتدأ أي: فهي تذكر، وعلى هذه القراءة فجملة الشرط والجزاء هل لها محل من الإعراب أم لا؟ فقال ابن عطية: "إن محلها الرفع صفة لامرأتين"، وكان قد تقدم أن قوله: "ممن ترضون" صفة لقوله "فرجل وامرأتان" قال الشيخ: "فصار نظير "جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان" وفي جواز مثل هذا التركيب نظر، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم "حبليان" على "عقلاء"; وأما إذا قيل بأن "ممن ترضون" بدل من رجالكم، أو متعلق بـ استشهدوا فيتعذر جعله صفة لامرأتين للزوم الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي". قلت: وابن عطية لم يبتدع هذا الإعراب، بل سبقه إليه الواحدي فإنه قال: "وموضع الشرط وجوابه رفع بكونهما وصفا للمذكورين وهما "امرأتان" في قوله: "فرجل وامرأتان" لأن الشرط والجزاء يوصف بهما، كما يوصل بهما في قوله: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة".

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفة للإخبار بهذا الحكم، وهي جواب لسؤال مقدر، كأن قائلا قال: ما بال امرأتين جعلتا بمنزلة رجل؟ فأجيب بهذه الجملة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما القراءة الثانية فـ "أن" فيها مصدرية ناصبة بعدها، والفتحة فيه حركة إعراب، بخلافها في قراءة حمزة، فإنها فتحة التقاء ساكنين، إذ اللام الأولى ساكنة للإدغام في الثانية، والثانية مسكنة للجزم، ولا يمكن إدغام في ساكن، [ ص: 660 ] فحركنا الثانية بالفتحة هربا من التقائهما، وكانت الحركة فتحة، لأنها أخف الحركات، وأن وما في حيزها في محل نصب أو جر بعد حذف حرف الجر، وهي لام العلة، والتقدير: لأن تضل، أو إرادة أن تضل.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي متعلق هذا الجار ثلاثة أوجه، أحدها: أنه فعل مضمر دل عليه الكلام السابق، إذ التقدير: فاستشهدوا رجلا وامرأتين لأن تضل إحداهما، ودل على هذا الفعل قوله: "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان"، قاله الواحدي، ولا حاجة إليه، لأن الرافع لرجل وامرأتين مغن عن تقدير شيء آخر، وكذلك الخبر المقدر لقولك: "فرجل وامرأتان" إذ تقدير الأول: فليشهد رجل، وتقدير الثاني: فرجل وامرأتان يشهدون لأن تضل، وهذان التقديران هما الوجه الثاني والثالث من الثلاثة المذكورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا سؤال واضح جرت عادة المعربين والمفسرين يسألونه وهو: كيف جعل ضلال إحداهما علة لتطلب الإشهاد أو مرادا لله تعالى، على حسب التقديرين المذكورين أولا؟ وقد أجاب سيبويه وغيره عن ذلك بأن الضلال لما كان سببا للإذكار، والإذكار مسببا عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار. فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره قولهم: "أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه" فليس إعدادك الخشبة لأن يميل الحائط ولا إعدادك السلاح لأن يجيء عدو، وإنما هما للإدغام إذا مال وللدفع إذا جاء العدو، وهذا مما يعود إليه المعنى ويهجر فيه جانب اللفظ.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 661 ] وقد ذهب الجرجاني في هذه الآية إلى أن التقدير: مخافة أن تضل، وأنشد قول عمرو:


                                                                                                                                                                                                                                      1125 - ... ... ... ...     فعجلنا القرى أن تشتمونا



                                                                                                                                                                                                                                      أي: مخافة أن تشتمونا" وهذا صحيح لو اقتصر عليه من غير أن يعطف عليه قوله "فتذكر" لأنه كان التقدير: فاستشهدوا رجلا وامرأتين مخافة أن تضل إحداهما، ولكن عطف قوله: "فتذكر" يفسده، إذ يصير التقدير: مخافة أن تذكر إحداهما الأخرى، وإذكار إحداهما الأخرى ليس مخوفا منه، بل هو المقصود، قال أبو جعفر: "سمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس أن التقدير كراهة أن تضل" قال أبو جعفر: "وهو غلط إذ يصير المعنى: كراهة أن تذكر إحداهما الأخرى". انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الفراء إلى أغرب من هذا كله فزعم أن تقدير الآية الكريمة: "كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت" فلما قدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت "أن"، قال: "ومثله من الكلام: "إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى" معناه: إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل; لأنه إنما يعجب الإعطاء لا السؤال، [ ص: 662 ] فلما قدموا السؤال على العطية أصحبوه أن المفتوحة لينكشف المعنى"، فعنده "أن" في "أن تضل" للجزاء، إلا أنه قدم وفتح وأصله التأخير.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر هذا القول البصريون وردوه أبلغ رد. قال الزجاج: "لست أدري لم صار الجزاء [إذا تقدم] وهو في مكانه وغير مكانه وجب أن يفتح أن". وقال الفارسي: "ما ذكره الفراء دعوى لا دلالة عليها والقياس يفسدها، ألا ترى أنا نجد الحرف العامل إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغيرا في عمله ولا معناه؟ وذلك ما رواه أبو الحسن من فتح اللام الجارة مع المظهر عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فكما أن هذه اللام لما فتحت لم يتغير من عملها ومعناها شيء، كذلك "إن" الجزائية ينبغي إذا فتحت ألا يتغير عملها ولا معناها، ومما يبعده أيضا أنا نجد الحرف العامل لا يتغير عمله بالتقديم ولا بالتأخير، ألا ترى لقولك: "مررت بزيد" ثم تقول: "بزيد مررت" فلم يتغير عمل الباء بتقديمها من تأخير".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "فتذكر" بتخفيف الكاف ونصب الراء من أذكرته أي: جعلته ذاكرا للشيء بعد نسيانه، فإن المراد بالضلال هنا النسيان كقوله تعالى: "فعلتها إذن وأنا من الضالين" وأنشدوا الفرزدق:


                                                                                                                                                                                                                                      1126 - ولقد ضللت أباك يدعو دارما     كضلال ملتمس طريق وبار

                                                                                                                                                                                                                                      فالهمزة في "أذكرته" للنقل والتعدية، والفعل قبلها متعد لواحد، فلا بد [ ص: 663 ] من آخر، وليس في الآية إلا مفعول واحد فلا بد من اعتقاد حذف الثاني، والتقدير فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة بعد نسيانها إن نسيتها، وهذا التفسير هو المشهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد شذ بعضهم فقال: "معنى فتذكر إحداهما الأخرى أي: فتجعلها ذكرا، أي: تصير حكمها حكم الذكر في قبول الشهادة. وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: "فتذكر إحداهما الأخرى بالتشديد فهو من طريق التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تذكرين إذ شهدنا كذا يوم كذا في مكان كذا على فلان أو فلانة، ومن قرأ "فتذكر" بالتخفيف فقال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها فقد أذكرتها لقيامهما مقام ذكر" ولم يرتض هذا من أبي عمرو المفسرون وأهل اللسان، بل لم يصححوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانته من العلم، وردوه على قائله من وجوه منها: أن الفصاحة تقتضي مقابلة الضلال المراد به النسيان بالإذكار والتذكير، ولا تناسب في المقابلة بالمعنى المنقول عنه. ومنها: أن النساء لو بلغن ما بلغن من العدد لا بد معهن من رجل يشهد معهم، فلو كان ذلك المعنى صحيحا لذكرتها بنفسها من غير انضمام رجل، هكذا ذكروا، وينبغي أن يكون ذلك فيما يقبل فيه الرجل مع المرأتين، وإلا فقد نجد النساء يتمحضن في شهادات من غير انضمام رجل إليهن، ومنها: أنها لو صيرتها ذكرا لكان ينبغي أن يكون ذلك في سائر الأحكام، ولا يقتصر به على ما فيه... وفيه نظر أيضا، إذ هو مشترك الإلزام لأنه يقال: وكذا إذا فسرتموه بالتذكير بعد النسيان لم يعم الأحكام كلها، فما أجيب به فهو جوابهم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 664 ] وقال الزمخشري: "ومن بدع التفاسير: "فتذكر" فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر" انتهى. ولم يجعل هذا القول مختصا بقراءة دون أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما نصب الراء فنسق على "أن تضل" لأنهما يقرآن: "أن تضل" بأن الناصبة، وقرأ الباقون بتشديد الكاف من "ذكرته" بمعنى جعلته ذاكرا أيضا، وقد تقدم أن حمزة وحده هو الذي يرفع الراء.

                                                                                                                                                                                                                                      وخرج من مجموع الكلمتين أن القراء على ثلاث مراتب: فحمزة وحده: "إن تضل فتذكر" بكسر "إن" وتشديد الكاف ورفع الراء، وأبو عمرو وابن كثير بفتح "أن" وتخفيف الكاف ونصب الراء، والباقون كذلك، إلا أنهم يشددون الكاف.

                                                                                                                                                                                                                                      والمفعول الثاني محذوف أيضا في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفعل وأفعل هنا بمعنى، [نحو]: أكرمته وكرمته، وفرحته وأفرحته. قالوا: والتشديد في هذا اللفظ أكثر استعمالا من التخفيف، وعليه قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1127 - على أنني بعد ما قد مضى     ثلاثون للهجر حولا كميلا
                                                                                                                                                                                                                                      يذكرنيك حنين العجول     ونوح الحمامة تدعو هديلا

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عيسى بن عمر والجحدري: "تضل" مبنيا للمفعول، وعن [ ص: 665 ] الجحدري أيضا: "تضل" بضم التاء وكسر الضاد من أضل كذا أي: أضاعه، والمفعول محذوف أي: تضل الشهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد: "فتذكر" برفع الراء وتخفيف الكاف، وزيد بن أسلم: "فتذاكر" من المذاكرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "إحداهما" فاعل "والأخرى" مفعول، وهذا مما يجب تقديم الفاعل فيه لخفاء الإعراب والمعنى نحو: ضرب موسى عيسى. قال أبو البقاء: فـ "إحداهما" فاعل، و "الأخرى" مفعول، ويصح العكس، إلا أنه يمتنع على ظاهر قول النحويين في الإعراب، لأنه إذا لم يظهر الإعراب في الفاعل والمفعول وجب تقديم الفاعل [فيما] يخاف فيه اللبس، فعلى هذا إذا أمن اللبس جاز تقديم المفعول كقولك: "كسر العصا موسى"، وهذه الآية من هذا القبيل لأن النسيان والإذكار لا يتعين في واحدة منهما بل ذلك على الإبهام، وقد علم بقوله "فتذكر" أن التي تذكر هي الذاكرة والتي تذكر هي الناسية، كما علم من لفظ "كسر" من يصح منه الكسر، فعلى هذا يجوز أن يجعل "إحداهما" فاعلا، و "الأخرى" مفعولا وأن تعكس" انتهى. ولما أبهم الفاعل في قوله: "أن تضل إحداهما" أبهم أيضا في قوله: "فتذكر إحداهما" لأن كلا من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الإضلال والإذكار، والمعنى: إن ضلت هذه أذكرتها هذه، فدخل الكلام معنى العموم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 666 ] قال أبو البقاء: "فإن قيل: لم لم يقل: "فتذكرها الأخرى" ؟ قيل فيه وجهان، أحدهما: أنه أعاد الظاهر ليدل على الإبهام في الذكر والنسيان، ولو أضمر لتعين عوده على المذكور. والثاني: أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تقديره: "فتذكرها" وهذا يدل على أن "إحداهما" الثانية مفعول مقدم، ولا يجوز أن يكون فاعلا في هذا الوجه، لأن المضمر هو المظهر بعينه، والمظهر الأول فاعل "تضل" فلو جعل الضمير لذلك المظهر لكانت الناسية هي المذكرة، وذا محال" قلت: وقد يتبادر إلى الذهن أن الوجهين راجعان لوجه واحد قبل التأمل، لأن قوله: "أعاد الظاهر" قريب من قوله: "وضع الظاهر موضع المضمر".

                                                                                                                                                                                                                                      و "إحدى" تأنيث "الواحد" قال الفارسي: "أنثوه على غير بنائه، وفي هذا نظر، بل هو تأنيث "أحد" ولذلك يقابلونها به في: أحد عشر وإحدى عشرة [و] واحد وعشرين وإحدى وعشرين. وتجمع "إحدى" على "إحد" نحو: كسرة وكسر. قال أبو العباس: "جعلوا الألف في الإحدى بمنزلة التاء في "الكسرة" فقالوا في جمعها: إحد كما قالوا: كسرة وكسر، كما جعلوه مثلها في الكبرى والكبر، والعليا والعلى، فكما جعلوا هذه كظلمة وظلم جعلوا الأول كسدرة وسدر" قال: "وكما جعلوا الألف المقصورة بمنزلة التاء فيما ذكر جعلوا الممدودة أيضا بمنزلتها في قولهم "قاصعاء وقواصع" وداماء ودوام" يعني أن فاعلة نحو: ضاربة تجمع على ضوارب، كذا [ ص: 667 ] فاعلاء نحو: قاصعاء وراهطاء تجمع على فواعل، وأنشد ابن الأعرابي على إحدى وإحد قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      1128 - حتى استثاروا بي إحدى الإحد     ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي

                                                                                                                                                                                                                                      قال: يقال: هو إحدى الإحد، وأحد الأحدين، وواحد الآحاد، كما يقال: واحد لا مثل له، وأنشد البيت.

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن "إحدى" لا تستعمل إلا مضافة إلى غيرها، فيقال: إحدى الإحد وإحداهما، ولا يقال: جاءتني إحدى، ولا رأيت إحدى، وهذا بخلاف مذكرها.

                                                                                                                                                                                                                                      و "الأخرى" تأنيث "آخر" الذي هو أفعل التفضيل، وتكون بمعنى آخرة، كقوله تعالى: "قالت أخراهم لأولاهم"، يجمع كل منهما على "أخر"، ولكن جمع الأولى ممتنع من الصرف، وفي علته خلاف، وجمع الثانية منصرف، وبينهما فرق في المعنى، وهذا كله سأوضحه إن شاء الله تعالى في الأعراف فإنه أليق به.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا يأب الشهداء" مفعوله محذوف لفهم المعنى، أي: لا يأبون إقامة الشهادة، وقيل: المحذوف مجرور لأن "أبى" بمعنى امتنع، فيتعدى تعديته أي من إقامة الشهادة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "إذا ما دعوا" ظرف لـ "يأب" أي: لا يمتنعون في وقت دعوتهم [ ص: 668 ] لأدائها، أو لإقامتها، ويجوز أن تكون متمحضة للظرف، ويجوز أن تكون شرطية والجواب محذوف أي: إذا دعوا فلا يأبوا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "أن تكتبوه" مفعول به والناصب له "تسأموا" لأنه يتعدى بنفسه قال:


                                                                                                                                                                                                                                      1129 - سئمت تكاليف الحياة ومن يعش     ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: بل يتعدى بحرف الجر، والأصل: من أن تكتبوه، فحذف حرف الجر للعلم به فيجري الخلاف المشهور في "أن" بعد حذفه، ويدل على تعديه بـ "من" قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1130 - ولقد سئمت من الحياة وطولها     وسؤال هذا الناس كيف لبيد

                                                                                                                                                                                                                                      والسأم والسآمة: الملل من الشيء والضجر منه.

                                                                                                                                                                                                                                      والهاء في "تكتبوه" يجوز أن تكون للدين في أول الآية، وأن تكون للحق في قوله: "فإن كان الذي عليه الحق" وهو أقرب مذكور، والمراد به "الدين" وقيل: يعود على الكتاب المفهوم من "يكتبوه" قاله الزمخشري. و"صغيرا أو كبيرا" حال، أي: على أي حال كان الدين قليلا أو كثيرا، وعلى أي حال كان الكتاب مختصرا أو مشبعا، وجوز السجاوندي انتصابه على خبر "كان" مضمرة، وهذا لا حاجة تدعو إليه، وليس من مواضع إضماره.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 669 ] وقرأ السلمي: "ولا يسأموا أن يكتبوه" بالياء من تحت فيهما. والفاعل على هذه القراءة ضمير الشهداء، ويجوز أن يكون من باب الالتفات، فيعود: إما على المتعاملين وإما على الكتاب.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلى أجله" يجوز فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنه متعلق بمحذوف أي: أن تكتبوه مستقرا في الذمة إلى أجل حلوله. والثاني: أنه متعلق بـ تكتبوه، قاله أبو البقاء. وهذا قد رده الشيخ فقال: "هو متعلق بمحذوف لا بـ "تكتبوه" لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين إذ ينقضي في زمن يسير، فليس نظير: "سرت إلى الكوفة". والثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الهاء، قاله أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ذلكم" مشار به لأقرب مذكور وهو الكتب. وقيل إليه وإلى الإشهاد، وقيل: إلى جميع ما ذكر وهو أحسن. و "أقسط" قيل: هو من أقسط إذا عدل، ولا يكون من قسط، لأن قسط بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، فتكون الهمزة للسلب، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي، وهو شاذ.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: "إن قلت مم بني أفعلا التفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من "أقسط" و "أقام" وأن يكون "أقسط" من قاسط على طريقة النسب بمعنى: ذي قسط; و "أقوم" من قويم". قال الشيخ: لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل يبنى من [ ص: 670 ] "أفعل"، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال، فإنه نص في أوائل كتابه على أن "أفعل" للتعجب يكون من فعل وفعل وفعل وأفعل، وظاهر هذا أن "أفعل" للتعجب يبنى منه أفعل للتفضيل، فما اقتاس في التعجب اقتاس في التفضيل، وما شذ فيه شذ فيه. وقد اختلف النحويون في بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقا، والمنع مطلقا، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنقل فيمتنع، أو لا فيجوز، وعليه يؤول كلام سيبويه، حيث قال: "إنه يبنى من أفعل" أي الذي همزته لغير التعدية. ومن منع مطلقا قال: "لم يقل سيبويه وأفعل بصيغة الماضي" إنما قالها أفعل بصيغة الأمر، فالتبس على السامع، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل، بناؤه من فعل وفعل وفعل، وعلى أفعل. ولهذه المذاهب موضوع هو أليق بالكلام عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ابن عطية أنه مأخوذ من "قسط" بضم السين نحو: "أكرم" من "كرم". وقيل: هو من القسط بالكسر وهو العدل، وهو مصدر لم يشتق منه فعل، وليس من الإقساط; لأن أفعل لا يبنى من "الإفعال". وهذا الذي قلته كله بناء منهم على أن الثلاثي بمعنى الجور والرباعي بمعنى العدل.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحكى أن سعيد بن جبير لما سأله الظالم [الحجاج] بن يوسف: ما تقول في؟ فقال: "أقول إنك قاسط عادل"، فلم يفطن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائرا كافرا، وتلا قوله تعالى: "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 671 ] وأما إذا جعلناه مشتركا بين عدل وبين جار فالأمر واضح قال ابن القطاع: "قسط قسوطا وقسطا: جار وعدل ضد". وحكى ابن السيد في كتاب "الاقتضاب" له عن ابن السكيت في كتاب "الأضداد" عن أبي عبيدة: "قسط: جار، وقسط: عدل، وأقسط بالألف عدل لا غير. وقال أبو القاسم الراغب الأصبهاني: "القسط أن يأخذ قسط غيره، وذلك جور، والإقساط أن يعطي قسط غيره، وذلك إنصاف، ولذلك يقال: قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل" وسيأتي لهذا أيضا مزيد بيان في سورة النساء إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      و "عند الله" ظرف منصوب بـ "أقسط" أي: في حكمه. وقوله "وأقوم" إنما صحت الواو فيه لأنه أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل يصح حملا على فعل التعجب، وصح فعل التعجب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرفه.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أقوم" يجوز أن يكون من "أقام" الرباعي المتعدي; لكنه حذف الهمزة الزائدة، ثم أتى بهمزة أفعل كقوله تعالى: "أي الحزبين أحصى" فيكون المعنى: أثبت لإقامتكم الشهادة، ويجوز أن يكون من "قام" اللازم ويكون المعنى: ذلك أثبت لقيام الشهادة، وقامت الشهادة: ثبتت، قاله أبو البقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 672 ] قوله: "للشهادة متعلق بـ "أقوم"، وهو مفعول في المعنى، واللام زائدة ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التفضيل إلا ضرورة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1131 - ... ... ... ...     وأضرب منا بالسيوف القوانسا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد قيل: إن "القوانس" منصوب بمضمر يدل عليه أفعل التفضيل، هذا معنى كلام الشيخ، وهو ماش على أن "أقوم" من أقام المتعدي، وأما إذا جعلته من "قام" بمعنى ثبت فاللام غير زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ألا ترتابوا" أي: أقرب، وحرف الجر محذوف، فقيل: هو اللام أي: أدنى لئلا ترتابوا، وقيل هو "إلى" وقيل: هو "من" أي: أدنى إلى أن لا ترتابوا وأدنى من أن لا ترتابوا. وفي تقديرهم "من" نظر، إذ المعنى لا يساعد عليه. و "ترتابوا": تفتعلوا من الريبة، والأصل: "ترتيبوا"، فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. والمفضل عليه محذوف لفهم المعنى، أي: أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب، وحسن الحذف كون أفعل خبرا للمبتدأ بخلاف كونه صفة أو حالا. وقرأ السلمي: "أن لا يرتابوا" بياء الغيبة كقراءة: "ولا يسأموا أن يكتبوه" وتقدم توجيه ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إلا أن تكون تجارة" في هذا الاستثناء قولان، أحدهما: أنه متصل قال أبو البقاء: "والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة، واستثنى منها التجارة الحاضرة، [ ص: 673 ] والتقدير: إلا في حال حضور التجارة". والثاني: أنه منقطع، قال مكي بن أبي طالب: "و "أن" في موضع نصب على الاستثناء المنقطع" قلت: وهذا هو الظاهر، كأنه قيل: لكن التجارة الحاضرة فإنه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عاصم هنا "تجارة" بالنصب، وكذلك "حاضرة" لأنها صفتها، وفي النساء وافقه الأخوان، والباقون قرؤوا بالرفع فيهما. فالرفع فيه وجهان، أحدهما: أنها التامة أي: إلا أن تحدث أو تقع تجارة، وعلى هذا فتكون "تديرونها" في محل رفع صفة لـ تجارة أيضا، وجاء هنا على الفصيح، حيث قدم الوصف الصريح على المؤول. والثاني: أن تكون الناقصة، واسمها "تجارة" والخبر هو الجملة من قوله: "تديرونها" كأنه قيل: إلا أن تكون تجارة حاضرة مدارة، وسوغ مجيء اسم كان نكرة وصفه، وهذا مذهب الفراء وتابعه آخرون.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة عاصم فاسمها مضمر فيها، فقيل: تقديره: إلا أن تكون المعاملة أو المبايعة أو التجارة. وقدره الزجاج إلا أن تكون المداينة، وهو أحسن. وقال الفارسي: "ولا يجوز أن يكون التداين اسم كان لأن التداين معنى، والتجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتداين حق في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان [ ص: 674 ] كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التداين والتجارة الحاضرة" وهذا الذي قاله الفارسي لا يظهر ردا على أبي إسحاق، لأن التجارة أيضا مصدر، فهي معنى من المعاني لا عين من الأعيان، وبين الفارسي والزجاج محاورة لأمر ما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفارسي أيضا: "ولا يجوز أيضا أن يكون اسمها "الحق" الذي في قوله: "فإن كان الذي عليه الحق" للمعنى الذي ذكرنا في التداين، لأن ذلك الحق دين، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين، أحدهما: أن هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد والارتهان قد علم من فحواها التبايع، فأضمر التبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه: "إذا كان غدا فأتني" وينشد على هذا:


                                                                                                                                                                                                                                      1132 - أعيني هلا تبكيان عفاقا     إذا كان طعنا بينهم وعناقا

                                                                                                                                                                                                                                      أي: إذا كان الأمر. والثاني: أن يكون أضمر التجارة كأنه قيل: إلا أن تكون التجارة تجارة، ومثله ما أنشده الفراء:


                                                                                                                                                                                                                                      1133 - فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي     إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد الزمخشري:


                                                                                                                                                                                                                                      1134 - بني أسد هل تعلمون بلاءنا     إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا

                                                                                                                                                                                                                                      أي: إذا كان اليوم يوما. و "بينكم" ظرف لتديرونها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 675 ] قوله: "فليس" قال أبو البقاء: "دخلت الفاء في "فليس" إيذانا بتعلق ما بعدها بما قبلها" قلت: هي عاطفة هذه الجملة على الجملة من قوله: "إلا أن تكون تجارة" إلى آخرها، والسببية فيها واضحة أي: بسبب عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: "أن لا تكتبوها" أي: "في أن لا"، فحذف حرف الجر فبقي في موضع "أن" الوجهان:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "إذا تبايعتم" يجوز أن تكون شرطية، وجوابها: إما متقدم عند قوم، وإما محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره: إذا تبايعتم فأشهدوا، ويجوز أن تكون ظرفا محضا أي: افعلوا الشهادة وقت التبايع.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولا يضار" العامة على فتح الراء جزما، و "لا" ناهية، وفتح الفعل لما تقدم في قراءة حمزة: "إن تضل". ثم هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل، والأصل: "يضارر" بكسر الراء الأولى فيكون "كاتب" و "شهيد" فاعلين نهيا عن مضارة المكتوب له والمشهود له، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقا أو نقصانه، ونهي الشاهد [عن] كتم الشهادة، واختاره الزجاج، ورجحه بأن الله تعالى قال: "فإنه فسوق بكم"، ولا شك أن هذا من الكاتب والشاهد فسق، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقا. ونقل في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وطاووس [ ص: 676 ] هذا المعنى. ونقل الداني عن عمر وابن عباس ومجاهد وابن أبي إسحاق أنهم قرؤوا الراء الأولى بالكسر حين فكوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيا للمفعول، والمعنى: أن أحدا لا يضارر الكاتب ولا الشاهد، ورجح هذا بأنه لو كان النهي متوجها نحو الكاتب والشهيد لقال: وإن تفعلا فإنه فسوق بكما، ولأن السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له. ونقل في التفسير هذا المعنى عن ابن عباس ومن ذكر معه. وذكر الداني أيضا عنهم أنهم قرؤوا الراء الأولى بالفتح. قلت: ولا غرو في هذا إذ الآية عندهم محتملة للوجهين فسروا وقرؤوا بهذا المعنى تارة وبالآخر أخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر وعمرو بن عبيد: "ولا يضار" بتشديد الراء ساكنة وصلا، وفيها ضعف من حيث الجمع بين ثلاث سواكن، لكنه لما كانت الألف حرف مد قام مدها مقام حركة، والتقاء الساكنين مغتفر في الوقف، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عكرمة: "ولا يضارر كاتبا ولا شهيدا" بالفك وكسر الراء الأولى، والفاعل ضمير صاحب الحق، ونصب "كاتبا" و "شهيدا" على المفعول به أي: لا يضارر صاحب حق كاتبا ولا شهيدا بأن يجبره ويبرمه بالكتابة والشهادة; أو بأن يحمله على ما لا يجوز.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن محيصن: "ولا يضار" برفع الراء، وهو نفي فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله: "فلا رفث ولا فسوق". [ ص: 677 ] وقرأ عكرمة في رواية مقسم: "ولا يضار" بكسر الراء مشددة على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدم لك تحقيق هذه الأشياء عند قوله: "لا تضار والدة بولدها".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "وإن تفعلوا" أي: تفعلوا شيئا مما نهى الله عنه، فحذف المفعول به للعلم به. والضمير في "فإنه" يعود على الامتناع أو الإضرار. و "بكم" متعلق بمحذوف، فقدره أبو البقاء: "لاحق بكم" وينبغي أن يقدر كونا مطلقا، لأنه صفة لـ "فسوق" أي: فسوق مستقر بكم، أي: ملتبس بكم ولاصق بكم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ويعلمكم الله" يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون حالا من الفاعل في "اتقوا" قال أبو البقاء: "تقديره: واتقوا الله مضمونا لكم التعليم أو الهداية، ويجوز أن تكون حالا مقدرة". قلت: وفي هذين الوجهين نظر لأن المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤول، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية