الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (285) قوله تعالى: والمؤمنون : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية عطفا على "الرسول" فيكون الوقف هنا، ويدل على صحة هذا ما قرأ به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "وآمن المؤمنون"، فأظهر الفعل، ويكون قوله: "كل آمن" جملة من مبتدأ وخبر يدل على أن جميع من تقدم ذكره آمن بما ذكر. والثاني: أن يكون "المؤمنون" مبتدأ، و "كل" مبتدأ ثان، و "آمن" خبر عن "كل" وهذا المبتدأ وخبره خبر الأول، وعلى هذا فلا بد من رابط بين هذه الجملة وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوف تقديره: "كل منهم" وهو كقولهم: "السمن منوان بدرهم" تقديره: منوان منه. قال الزمخشري: "والمؤمنون إن عطف على الرسول كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في "كل" راجعا إلى "الرسول" و "المؤمنون" أي: كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين ووقف عليه، وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين".

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: هل يجوز أن يكون "المؤمنون" مبتدأ، و "كل" تأكيد له، و "آمن" خبر هذا المبتدأ؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لأنهم نصوا على أن "كلا" وأخواتها لا تقع تأكيدا للمعارف إلا مضافة لفظا لضمير الأول، ولذلك ردوا قول من قال: "إن كلا في قراءة من قرأ: "إنا كل فيها" تأكيد لاسم إن.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 692 ] وقرأ الأخوان هنا "وكتابه" بالإفراد والباقون بالجمع. وفي سورة التحريم قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم بالجمع والباقون بالإفراد. فتلخص من ذلك أن الأخوين يقرآن بالإفراد في الموضعين، وأن أبا عمرو وحفصا يقرآن بالجمع في الموضعين، وأن نافعا وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصم قرؤوا بالجمع هنا وبالإفراد في التحريم.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الإفراد فإنه يراد به الجنس لا كتاب واحد بعينه، وعن ابن عباس: "الكتاب أكثر من الكتب" قال الزمخشري: "فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية قائمة في وحدات الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع". قال الشيخ: "وليس كما ذكر لأن الجمع متى أضيف أو دخلته الألف واللام [الجنسية] صار عاما، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد، فلو قال: "أعتقت عبيدي" لشمل ذلك كل عبد له، ودلالة الجمع أظهر في العموم في الواحد سواء كانت فيه الألف واللام أو الإضافة، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلا بقرينة لفظية كأن يستثنى منه أو يوصف بالجمع نحو: "إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا"" أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض" أو قرينة معنوية نحو: "نية المؤمن أبلغ من عمله" وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أريد به العموم" قلت: للناس خلاف في الجمع المحلى بأل أو المضاف: هل عمومه بالنسبة إلى مراتب الجموع أم إلى أعم من ذلك، وتحقيقه في علم الأصول.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 693 ] وقال الفارسي: "هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر وإن أريد بها الكثير كقوله تعالى: "وادعوا ثبورا كثيرا" ولكنه كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة نحو: كثر الدينار والدرهم، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة، ومن الإضافة: "وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها" وفي الحديث: "منعت العراق درهمها وقفيزها" يراد به الكثير، كما يراد بما فيه لام التعريف". قال الشيخ: "انتهى ملخصا، ومعناه أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وليس في كلامه ما يدل على ذلك البتة، إنما فيه أن مجيئها في الكلام معرفة بأل أكثر من مجيئها مضافة، وليس فيه تعرض لكثرة عموم ولا قلته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد بالكتاب هنا القرآن فيكون المراد الإفراد الحقيقي. وأما الجمع فلإرادة كل كتاب، إذ لا فرق بين كتاب وكتاب، وأيضا فإن فيه مناسبة لما قبله وما بعده من الجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ بالتوحيد في التحريم فإنما أراد به الإنجيل كإرادة القرآن هنا، ويجوز أن يراد به أيضا الجنس. وقد حمل على لفظ "كل" في قوله: "آمن" فأفرد الضمير وعلى معناه فجمع في قوله: "وقالوا سمعنا". قال الزمخشري: "ووحد ضمير "كل" في "آمن" على معنى: كل واحد منهم آمن، وكان يجوز أن يجمع كقوله تعالى: "وكل أتوه داخرين".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 694 ] وقرأ يحيى بن يعمر - ورويت عن نافع - "وكتبه ورسله" بإسكان العين فيهما. وروي عن الحسن وأبي عمرو تسكين سين "رسله".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "لا نفرق" هذه الجملة منصوبة بقول محذوف تقديره: يقولون لا نفرق، ويجوز أن يكون التقدير: يقول، يعني يجوز أن يراعى لفظ "كل" تارة ومعناها أخرى في ذلك القول المقدر، فمن قدر "يقولون" راعى معناها، ومن قدر "يقول" راعى لفظها، وهذا القول المضمر في محل نصب على الحال ويجوز أن يكون في محل رفع لأنه خبر بعد خبر، قاله الحوفي.

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على "لا نفرق" بنون الجمع. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب، ورويت عن أبي عمرو أيضا: "لا يفرق" بياء الغيبة حملا على لفظ "كل". وروى هارون أن في مصحف عبد الله "لا يفرقون" بالجمع حملا على معنى "كل"، وعلى هاتين القراءتين فلا حاجة إلى إضمار قول، بل الجملة المنفية بنفسها: إما في محل نصب على الحال، وإما في محل رفع خبرا ثانيا كما تقدم في ذلك القول المضمر.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بين أحد" متعلق بالتفريق، وأضيف "بين" إلى أحد وهو مفرد، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد نحو: "بين الزيدين" أو "بين زيد وعمرو"، ولا يجوز "بين زيد" ويسكت: إما لأن "أحدا" في معنى العموم وهو "أحد" الذي لا يستعمل إلا في الجحد ويراد به العموم، فكأنه قيل: لا نفرق بين [ ص: 695 ] الجميع من الرسل. قال الزمخشري: كقوله: "فما منكم من أحد عنه حاجزين"، ولذلك دخل عليه "بين" وقال الواحدي: "وبين" تقتضي شيئين فصاعدا، وإنما جاز ذلك مع "أحد" وهو واحد في اللفظ، لأن "أحدا" يجوز أن يؤدى عن الجميع، قال الله تعالى: "فما منكم من أحد عنه حاجزين" وفي الحديث: "ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم" يعني فوصفه بالجمع، لأن المراد به جمع. قال: "وإنما جاز ذلك لأن "أحدا" ليس كرجل يجوز أن يثنى ويجمع، وقولك: "ما يفعل هذا أحد" تريد ما يفعله الناس كلهم، فلما كان "أحد" يؤدى عن الجميع جاز أن يستعمل معه لفظ "بين" وإن كان لا يجوز أن تقول: "لا نفرق بين رجل منهم".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وقد رد بعضهم هذا التأويل فقال: "وقيل إن "أحدا" بمعنى جميع، والتقدير: بين جميع رسله" ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل، والمقصود بالنفي هو هذا; لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل بل البعض، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل، بل معنى الآية: لا نفرق بين أحد من رسله وبين غيره في النبوة، وهذا وإن كان في نفسه صحيحا إلا أن القائلين بكون "أحد" بمعنى جميع، وإنما يريدون في العموم المصحح لإضافة "بين" إليه، ولذلك ينظرونه بقوله تعالى: "فما منكم من أحد" وبقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      1146 - إذا أمور الناس ديكت دوكا لا يرهبون أحدا رأوكا

                                                                                                                                                                                                                                      فقال: "رأوك" اعتبارا بمعنى الجميع المفهوم من "أحد".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 696 ] وإما لأن ثم معطوفا محذوفا لدلالة المعنى عليه، والتقدير: "لا نفرق بين أحد من رسله وبين أحد، وعلى هذا فأحد هنا ليس الملازم للجحد ولا همزته أصلية بل هو "أحد" الذي بمعنى واحد وهمزته بدل من الواو، وحذف المعطوف كثير جدا [نحو]: "سرابيل تقيكم الحر" أي: والبرد، [وقوله]:


                                                                                                                                                                                                                                      1147 - فما كان بين الخير لو جاء سالما     أبو حجر إلا ليال قلائل

                                                                                                                                                                                                                                      أي: بين الخير وبيني.

                                                                                                                                                                                                                                      و "من رسله" في محل جر لأنه صفة لـ "أحد"، و "قالوا" عطف على "آمن"، وقد تقدم أنه حمل على معنى "كل".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "غفرانك" منصوب: إما على المصدرية. قال الزمخشري: "منصوب بإضمار فعله، يقال: "غفرانك لا كفرانك" أي: نستغفرك ولا نكفرك" فقدره جملة خبرية، وهذا ليس مذهب سيبويه، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملة طلبية كأنه قيل: "اغفر غفرانك". ونقل ابن عطية هذا قولا عن الزجاج، والظاهر أن هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور، فعدها تارة مع ما يلزم فيه إضمار الناصب نحو: "سبحان الله وريحانه"، و "غفرانك لا كفرانك"، [ ص: 697 ] وتارة مع ما يجوز إظهار عامله. والطلب في هذا الباب أكثر، وقد تقدم لك نحو من هذا في أول الفاتحة.

                                                                                                                                                                                                                                      والمصير: اسم مصدر من صار يصير أي: رجع، وقد تقدم لك في قوله: "المحيض" أن في المفعل من الفعل المعتل العين بالياء ثلاثة مذاهب وهي: جريانه مجرى الصحيح، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح، والزمان والمكان بالكسر نحو: ضرب يضرب مضربا، أو يكسر مطلقا، أو يقتصر فيه على السماع فلا يتعدى وهو أعدلها، ويطلق المصير على المعنى، ويجمع على مصران كرغيف ورغفان، ويجمع مصران على مصارين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية