الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      محنة الواثق

                                                                                      قال حنبل : لم يزل أبو عبد الله بعد أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة ، ويحدث ويفتي ، حتى مات المعتصم ، وولي ابنه الواثق ، فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى أحمد بن أبي دواد وأصحابه .

                                                                                      فلما اشتد الأمر على أهل بغداد ، وأظهرت القضاة المحنة بخلق القرآن ، وفرق بين فضل الأنماطي وبين امرأته ، وبين أبي صالح وبين امرأته ، كان أبو عبد الله يشهد الجمعة ، ويعيد الصلاة إذا رجع ، ويقول : تؤتى الجمعة لفضلها ، والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة .

                                                                                      وجاء نفر إلى أبي عبد الله ، وقالوا : هذا الأمر قد فشا وتفاقم ، ونحن نخافه على أكثر من هذا ، وذكروا ابن أبي دواد ، وأنه على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب القرآن كذا وكذا فنحن لا نرضى بإمارته . فمنعهم من ذلك ، وناظرهم .

                                                                                      وحكى أحمد قصده في مناظرتهم ، وأمرهم بالصبر . قال : فبينا [ ص: 264 ] نحن في أيام الواثق ، إذ جاء يعقوب ليلا برسالة الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى أبي عبد الله : يقول لك الأمير : إن أمير المؤمنين قد ذكرك ، فلا يجتمعن إليك أحد ، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها ، فاذهب حيث شئت من أرض الله . قال : فاختفى أبو عبد الله بقية حياة الواثق . وكانت تلك الفتنة ، وقتل أحمد بن نصر الخزاعي . ولم يزل أبو عبد الله مختفيا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق .

                                                                                      وعن إبراهيم بن هانئ قال : اختفى أبو عبد الله عندي ثلاثا ، ثم قال : اطلب لي موضعا ، قلت : لا آمن عليك ، قال : افعل ، فإذا فعلت ، أفدتك . فطلبت له موضعا ، فلما خرج ، قال : اختفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام ثم تحول .

                                                                                      العجب من أبي القاسم علي بن الحسن الحافظ ، كيف ذكر ترجمة أحمد مطولة كعوائده ، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمة مع صحة أسانيدها فإن حنبلا ألفها في جزءين . وكذلك صالح بن أحمد وجماعة .

                                                                                      قال أبو الحسين بن المنادي ، حدثني جدي أبو جعفر قال : لقيت أبا [ ص: 265 ] عبد الله ، فرأيت في يديه مجمرة يسخن خرقة ، ثم يجعلها على جنبه من الضرب . فقال : يا أبا جعفر ، ما كان في القوم أرأف بي من المعتصم .

                                                                                      وعن أبي عبد الله البوشنجي قال : حدث أحمد ببغداد جهرة حين مات المعتصم . فرجعت من الكوفة ، فأدركته في رجب سنة سبع وعشرين ، وهو يحدث ، ثم قطع الحديث لثلاث بقين من شعبان بلا منع . بل كتب الحسن بن علي بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دواد : إن أحمد قد انبسط في الحديث ، فبلغ ذلك أحمد ، فقطع الحديث وإلى أن توفي .

                                                                                      فصل في حال الإمام في دولة المتوكل

                                                                                      قال حنبل : ولي المتوكل جعفر ، فأظهر الله السنة ، وفرج عن الناس ، وكان أبو عبد الله يحدثنا ويحدث أصحابه في أيام المتوكل . وسمعته يقول : ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا .

                                                                                      قال حنبل : ثم إن المتوكل ذكره ، وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه ، فجاء رسول إسحاق إلى أبي عبد الله يأمره بالحضور ، فمضى أبو عبد الله ثم رجع ، فسأله أبي عما دعي له ؟ فقال : قرأ علي كتاب جعفر يأمرني بالخروج إلى العسكر ، يعني : سر من رأى ، قال : وقال لي إسحاق بن إبراهيم : ما تقول في القرآن ؟ فقلت : إن أمير المؤمنين قد نهى عن هذا . قال : وخرج إسحاق إلى العسكر ، وقدم ابنه محمدا ينوب عنه ببغداد .

                                                                                      قال أبو عبد الله : وقال لي إسحاق بن إبراهيم : لا تعلم أحدا أني سألتك عن القرآن ! فقلت له : مسألة مسترشد أو مسألة متعنت ؟ قال : بل مسترشد ، قلت : القرآن كلام الله ليس بمخلوق . [ ص: 266 ]

                                                                                      قال صالح بن أحمد : قال أبي : قال لي إسحاق بن إبراهيم : اجعلني في حل من حضوري ضربك ، فقلت : قد جعلت كل من حضرني في حل .

                                                                                      وقال لي : من أين قلت : إنه غير مخلوق ؟ فقلت : قال الله : ألا له الخلق والأمر ففرق بين الخلق والأمر . فقال إسحاق : الأمر مخلوق . فقال : يا سبحان الله ! أمخلوق يخلق خلقا ؟ !! قلت يعني : إنما خلق الكائنات بأمره ، وهو قوله : كن قال : ثم قال لي : عمن تحكي أنه ليس بمخلوق ؟ قلت : عن جعفر بن محمد قال : ليس بخالق ولا مخلوق .

                                                                                      قال حنبل : ولم يكن عند أبي عبد الله ما يتحمل به أو ينفقه ، وكانت عندي مائة درهم ، فأتيت بها أبي ، فذهب بها إليه ، فأصلح بها ما احتاج إليه ، واكترى وخرج ، ولم يمض إلى محمد بن إسحاق بن إبراهيم ولا سلم عليه . فكتب بذلك محمد ، إلى أبيه ، فحقدها إسحاق عليه . وقال : يا أمير المؤمنين ! إن أحمد خرج من بغداد ، ولم يأت مولاك محمدا . فقال المتوكل : يرد ولو وطئ بساطي - وكان أحمد قد بلغ بصرى - فرد ، فرجع وامتنع من الحديث إلا لولده ولنا ، وربما قرأ علينا في منزلنا .

                                                                                      ثم إن رافعا رفع إلى المتوكل : إن أحمد ربص علويا في منزله ، يريد أن يخرجه ويبايع عليه . قال : ولم يكن عندنا علم ، فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف ، سمعنا الجلبة ، ورأينا النيران في دار أبي عبد الله ، فأسرعنا ، [ ص: 267 ] وإذا به قاعد في إزار ، ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر ، وجماعة معهم ، فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل : ورد على أمير المؤمنين أن عندكم علويا ربصته لتبايع له ، وتظهره ، في كلام طويل . ثم قال له مظفر : ما تقول ؟

                                                                                      قال : ما أعرف من هذا شيئا ، وإني لأرى له السمع والطاعة في عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثرة علي ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار ، في كلام كثير . فقال مظفر : قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك ، قال : فأحلفه بالطلاق ثلاثا ، أن ما عنده طلبة أمير المؤمنين . ثم فتشوا منزل أبي عبد الله والسرب والغرف والسطوح ، وفتشوا تابوت الكتب ، وفتشوا النساء والمنازل ، فلم يروا شيئا ، ولم يحسوا بشيء ، ورد الله الذين كفروا بغيظهم ، وكتب بذلك إلى المتوكل ، فوقع منه موقعا حسنا ، وعلم أن أبا عبد الله مكذوب عليه . وكان الذي دس عليه رجل من أهل البدع . ولم يمت حتى بين الله أمره للمسلمين ، وهو ابن الثلجي .

                                                                                      فلما كان بعد أيام بينا نحن جلوس بباب الدار ، إذا يعقوب أحد حجاب المتوكل قد جاء ، فاستأذن على أبي عبد الله ، فدخل ، ودخل أبي وأنا ، ومع بعض غلمانه بدرة على بغل ، ومعه كتاب المتوكل . فقرأه على أبي عبد الله : إنه صح عند أمير المؤمنين براءة ساحتك ، وقد وجه إليك بهذا المال [ ص: 268 ] تستعين به . فأبى أن يقبله ، وقال : ما لي إليه حاجة . فقال : يا أبا عبد الله ، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به ، فإنه خير لك عنده ، فإنك إن رددته ، خفت أن يظن بك سوءا . فحينئذ قبلها . فلما خرج ، قال : يا أبا علي ، قلت : لبيك ، قال : ارفع هذه الإنجانة وضعها ، يعني : البدرة ، تحتها . ففعلت وخرجنا . فلما كان من الليل ، إذا أم ولد أبي عبد الله تدق علينا الحائط ، فقالت : مولاي يدعو عمه ، فأعلمت أبي ، وخرجنا ، فدخلنا على أبي عبد الله ، وذلك في جوف الليل ، فقال : يا عم ، ما أخذني النوم ، قال : ولم ؟ .

                                                                                      قال : لهذا المال ، وجعل يتوجع لأخذه ، وأبي يسكنه ويسهل عليه . وقال : حتى تصبح وترى فيه رأيك . فإن هذا ليل ، والناس في المنازل ، فأمسك وخرجنا . فلما كان من السحر ، وجه إلى عبدوس بن مالك ، وإلى ، الحسن بن البزار فحضرا وحضر جماعة ، منهم : هارون الحمال ، وأحمد بن منيع ، وابن الدورقي ، وأبي ، وأنا ، وصالح ، وعبد الله . وجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل الستر والصلاح ببغداد والكوفة . فوجه منها إلى أبي كريب ، وللأشج وإلى من يعلمون حاجته . ففرقها كلها ما بين الخمسين إلى المائة وإلى المائتين ، فما بقي في الكيس درهم .

                                                                                      فلما كان بعد ذلك ، مات الأمير إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد . ثم ولي بغداد عبد الله بن إسحاق ، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله ، فذهب إليه ، فقرأ عليه كتاب المتوكل ، وقال له : يأمرك بالخروج يعني : إلى سامراء . [ ص: 269 ] فقال : أنا شيخ ضعيف عليل . فكتب عبد الله بما رد عليه ، فورد جواب الكتاب : أن أمير المؤمنين يأمره بالخروج . فوجه عبد الله أجنادا ، فباتوا على بابنا أياما ، حتى تهيأ أبو عبد الله للخروج ، فخرج ومعه صالح وعبد الله وأبي زميلة . وقال صالح : كان حمل أبي إلى المتوكل سنة سبع وثلاثين . ثم وإلى أن مات أبي قل يوم يمضي إلا ورسول المتوكل يأتيه .

                                                                                      وقال صالح : وجه إسحاق إلى أبي : الزم بيتك ، ولا تخرج إلى جماعة ولا جمعة ، وإلا نزل بك ما نزل بك أيام أبي إسحاق .

                                                                                      وقال ابن الكلبي : أريد أن أفتش منزلك ومنزل ابنك . فقام مظفر وابن الكلبي ، وامرأتان معهما ، ففتشوا ، ودلوا شمعة في البئر ، ونظروا ثم خرجوا . فلما كان بعد يومين ، ورد كتاب علي بن الجهم : أن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك . وذكر نحوا من رواية حنبل .

                                                                                      قال حنبل : فأخبرني أبي ، قال : دخلنا إلى العسكر ، فإذا نحن بموكب عظيم مقبل ، فلما حاذى بنا ، قالوا : هذا وصيف ، وإذا بفارس قد أقبل ، فقال لأبي عبد الله : الأمير وصيف يقرئك السلام ، ويقول لك : إن الله قد أمكنك من عدوك ، يعني : ابن أبي دواد ، وأمير المؤمنين يقبل منك ، فلا تدع شيئا إلا تكلمت به . فما رد عليه أبو عبد الله شيئا . وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ، ودعوت لوصيف . ومضينا ، فأنزلنا في دار [ ص: 270 ] إيتاخ ولم يعرف أبو عبد الله ، فسأل بعد لمن هذه الدار ؟ قالوا : هذه دار إيتاخ . قال : حولوني ، اكتروا لي دارا . قالوا : هذه دار أنزلكها أمير المؤمنين ، قال : لا أبيت هاهنا . ولم يزل حتى اكترينا له دارا . وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والثلج والفاكهة وغير ذلك ، فما ذاق منها أبو عبد الله شيئا ، ولا نظر إليها . وكان نفقة المائدة في اليوم مائة وعشرين درهما .

                                                                                      وكان يحيى بن خاقان ، وابنه عبيد الله ، وعلي بن الجهم يختلفون إلى أبي عبد الله برسالة المتوكل . ودامت العلة بأبي عبد الله ، وضعف شديدا .

                                                                                      وكان يواصل ، ومكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب ، ففي الثامن دخلت عليه ، وقد كاد أن يطفأ ، فقلت : يا أبا عبد الله ، ابن الزبير كان يواصل سبعة ، وهذا لك اليوم ثمانية أيام . قال : إني مطيق . قلت : بحقي عليك . قال : فإني أفعل . فأتيته بسويق فشرب .

                                                                                      ووجه إليه المتوكل بمال عظيم ، فرده ، فقال له عبيد الله بن يحيى : فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك . قال : هم مستغنون ، فردها عليه ، فأخذها عبيد الله ، فقسمها على ولده ، ثم أجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف . فبعث إليه أبو عبد الله : إنهم في كفاية ، وليست بهم حاجة . فبعث إليه المتوكل : إنما هذا لولدك ، فما لك ولهذا ؟ فأمسك أبو عبد الله ، فلم يزل يجري علينا حتى مات المتوكل .

                                                                                      وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي كلام كثير . وقال : يا عم ، ما بقي من [ ص: 271 ] أعمارنا . كأنك بالأمر قد نزل . فالله الله ، فإن أولادنا إنما يريدون أن يأكلوا بنا ، وإنما هي أيام قلائل ، له وإنما هذه فتنة . قال أبي : فقلت : أرجو أن يؤمنك الله مما تحذر . فقال : كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم ؟ لو تركتموها ، لتركوكم . ماذا ننتظر ؟ إنما هو الموت . فإما إلى جنة ، وإما إلى نار . فطوبى لمن قدم على خير . قال : فقلت : أليس قد أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف نفس ، ولا مسألة أن تأخذه ؟ قال : قد أخذت مرة بلا إشراف نفس ، فالثانية والثالثة ؟ ألم تستشرف نفسك ؟ قلت : أفلم يأخذ ابن عمر وابن عباس ؟ فقال : ما هذا وذاك ! وقال : لو أعلم أن هذا المال يؤخذ من وجهه ، ولا يكون فيه ظلم ولا حيف لم أبال .

                                                                                      قال حنبل : ولما طالت علة أبي عبد الله ، كان المتوكل يبعث بابن ماسويه المتطبب ، فيصف له الأدوية ، فلا يتعالج . ويدخل ابن ماسويه ، فقال : يا أمير المؤمنين ليست بأحمد علة ، إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة ، فسكت المتوكل .

                                                                                      وبلغ أم المتوكل خبر أبي عبد الله ، فقالت لابنها : أشتهي أن أرى هذا الرجل ، فوجه المتوكل إلى أبي عبد الله ، يسأله أن يدخل على ابنه المعتز ، ويدعو له ويسلم عليه ، ويجعله في حجره . فامتنع ، ثم أجاب رجاء أن يطلق ، وينحدر إلى بغداد ، فوجه إليه المتوكل خلعة ، وأتوه بدابة يركبها إلى المعتز ، فامتنع ، وكانت عليه ميثرة نمور . فقدم إليه بغل لتاجر ، فركبه ، وجلس المتوكل مع أمه في مجلس من المكان ، وعلى المجلس ستر رقيق .

                                                                                      فدخل أبو عبد الله على المعتز ، ونظر إليه المتوكل وأمه . فلما رأته ، قالت : يا بني ، الله الله في هذا الرجل ، فليس هذا ممن يريد ما عندكم ، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله ، فائذن له ليذهب ، فدخل أبو عبد الله على [ ص: 272 ] المعتز ، فقال : السلام عليكم ، وجلس ، ولم يسلم عليه بالإمرة . فسمعت أبا عبد الله بعد يقول : لما دخلت عليه ، وجلست ، قال مؤدبه : أصلح الله الأمير ، هذا هو الذي أمره أمير المؤمنين يؤدبك ويعلمك ؟ فقال الصبي : إن علمني شيئا ، تعلمته ! قال أبو عبد الله : فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره ، وكان صغيرا .

                                                                                      ودامت علة أبي عبد الله ، وبلغ المتوكل ما هو فيه ، وكلمه يحيى بن خاقان أيضا ، وأخبره أنه رجل لا يريد الدنيا ، فأذن له في الانصراف . فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر ، فقال : إن أمير المؤمنين قد أذن لك ، وأمر أن يفرش لك حراقة تنحدر فيها . فقال أبو عبد الله : اطلبوا لي زورقا أنحدر الساعة . فطلبوا له زورقا ، فانحدر لوقته .

                                                                                      قال حنبل : فما علمنا بقدومه حتى قيل : إنه قد وافى ، فاستقبلته بناحية القطيعة . وقد خرج من الزورق ، فمشيت معه ، فقال لي : تقدم لا يراك الناس فيعرفوني ، فتقدمته . قال : فلما وصل ألقى نفسه على قفاه من التعب والعياء .

                                                                                      وكان ربما استعار الشيء من منزلنا ومنزل ولده ، فلما صار إلينا من مال السلطان ما صار ، امتنع من ذلك حتى لقد وصف له في علته قرعة تشوى ، فشويت في تنور صالح ، فعلم ، فلم يستعملها . ومثل هذا كثير . [ ص: 273 ]

                                                                                      وقد ذكر صالح قصة خروج أبيه إلى العسكر ورجوعه ، وتفتيش بيوتهم على العلوي ، وورود يعقوب بالبدرة وأن بعضها كان مائتي دينار ، وأنه بكى ، وقال : سلمت منهم ، حتى إذا كان في آخر عمري ، بليت بهم .

                                                                                      عزمت عليك أن تفرقها غدا ، فلما أصبح ، جاءه حسن بن البزار ، فقال : جئني يا صالح بميزان ، وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار ، وإلى فلان ، حتى فرق الجميع ، ونحن في حالة ، الله بها عليم . فجاءني ابن لي فطلب درهما ، فأخرجت قطعة ، فأعطيته . فكتب صاحب البريد : إنه تصدق بالكل ليومه حتى بالكيس .

                                                                                      قال علي بن الجهم : فقلت : يا أمير المؤمنين ، قد تصدق بها ، وعلم الناس أنه قد قبل منك ، وما يصنع أحمد بالمال ؟ ! وإنما قوته رغيف . قال : صدقت .

                                                                                      قال صالح : ثم أخرج أبي ليلا ومعنا حراس ، فلما أصبح ، قال : أمعك دراهم ؟ قلت : نعم . قال : أعطهم . وجعل يعقوب يسير معه ، فقال له : يا أبا عبد الله ، ابن الثلجي بلغني أنه كان يذكرك . قال : يا أبا يوسف ، سل الله العافية . قال : يا أبا عبد الله ، تريد أن نؤدي عنك رسالة إلى أمير المؤمنين ؟ فسكت ، فقال : إن عبد الله بن إسحاق أخبرني أن الوابصي قال له : إني أشهد عليه أنه قال : إن أحمد يعبد ماني ! فقال : يا أبا [ ص: 274 ] يوسف يكفي الله ، فغضب يعقوب ، والتفت إلي فقال : ما رأيت أعجب مما نحن فيه ، أسأله أن يطلق لي كلمة أخبر بها أمير المؤمنين ، فلا يفعل !!

                                                                                      قال : ووجه يعقوب إلى المتوكل بما عمل ، ودخلنا العسكر ، وأبي منكس الرأس ، ورأسه مغطى . فقال له يعقوب : اكشف رأسك ، فكشفه .

                                                                                      ثم جاء وصيف يريد الدار ، ووجه إلى أبي بيحيى بن هرثمة ، فقال : يقرئك أمير المؤمنين السلام ، ويقول : الحمد لله الذي لم يشمت بك أهل البدع ، قد علمت حال ابن أبي دواد ، فينبغي أن تتكلم فيه بما يجب لله . ومضى يحيى ، وأنزل أبي في دار إيتاخ ، فجاء علي بن الجهم ، وقال : قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرقها ، وأن لا يعلم شيخكم بذلك فيغتم . ثم جاءه محمد بن معاوية ، فقال : إن أمير المؤمنين يكثر ذكرك ، ويقول : تقيم هنا تحدث . فقال : أنا ضعيف .

                                                                                      وصار إليه يحيى بن خاقان ، فقال : يا أبا عبد الله ، قد أمر أمير المومنين أن آتيك لتركب إلى ابنه المعتز . وقال لي : أمرني ، أمير المؤمنين يجري عليه وعلى قرابتكم أربعة آلاف ثم عاد يحيى من الغد ، فقال : يا أبا عبد الله ، تركب ؟ قال : ذاك إليكم ، ولبس إزاره وخفه ، وكان للخف عنده خمسة عشر عاما [ قد رقع ] برقاع [ عدة ] . فأشار يحيى أن يلبس قلنسوة . قلت : ما له قلنسوة . . . إلى أن قال : فدخل دار المعتز ، وكان [ ص: 275 ] قاعدا على مصطبة في الدار . فصعد وقعد ، فقال له يحيى : يا أبا عبد الله ، إن أمير المؤمنين جاء بك ليسر بقربك ، ويصير ابنه عبد الله في حجرك . فأخبرني بعض الخدام أن المتوكل كان قاعدا وراء ستر ، فقال لأمه : يا أمه ، قد أنارت الدار . ثم جاء خادم بمنديل ، فأخذ يحيى المنديل ، وذكر قصة في إلباس أبي عبد الله القميص والقلنسوة والطيلسان ، وهو لا يحرك يده; ثم انصرف .

                                                                                      وقد كانوا تحدثوا أنه يخلع عليه سوادا . فلما جاء ، نزع الثياب ، وجعل يبكي ، وقال : سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة ، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم . ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام ، فكيف بمن يجب علي نصحه ؟! يا صالح : وجه بهذه الثياب إلى بغداد تباع ، ويتصدق بثمنها ، ولا يشتري أحد منكم منها شيئا ، فوجهت بها إلى يعقوب بن بختان فباعها ، وفرق ثمنها ، وبقيت عندي القلنسوة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية