الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6487 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان عن عمرو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت في بني إسرائيل قصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة كتب عليكم القصاص في القتلى إلى هذه الآية فمن عفي له من أخيه شيء قال ابن عباس فالعفو أن يقبل الدية في العمد قال فاتباع بالمعروف أن يطلب بمعروف ويؤدي بإحسان

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عمرو ) هو ابن دينار .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن مجاهد ) وقد تقدم في تفسير البقرة عن الحميدي " عن سفيان حدثنا عمرو سمعت مجاهدا " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن ابن عباس - رضي الله عنهما ) في رواية الحميدي : " سمعت ابن عباس " هكذا وصله ابن عيينة عن عمرو بن دينار وهو من أثبت الناس في عمرو ، ورواه ورقاء بن عمر عن عمرو فلم يذكر فيه ابن عباس أخرجه النسائي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كانت في بني إسرائيل القصاص ) كذا هنا من رواية قتيبة عن سفيان بن عيينة ، وفي رواية الحميدي عن سفيان : " كان في بني إسرائيل القصاص " ، كما تقدم في التفسير وهو أوجه ، وكأنه أنث باعتبار معنى القصاص وهو المماثلة والمساواة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال الله لهذه الأمة كتب عليكم القصاص في القتلى إلى هذه الآية فمن عفي له من أخيه شيء ) قلت : كذا وقع في رواية قتيبة ، ووقع هنا عند أبي ذر والأكثر ، ووقع هنا في رواية النسفي والقابسي " إلى قوله فمن عفي له من أخيه شيء " ، ووقع في رواية ابن أبي عمر في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج " إلى قوله في هذه الآية " وبهذا يظهر المراد ، وإلا فالأول يوهم أن قوله : فمن عفي في آية تلي الآية المبدأ بها وليس كذلك .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي كريب وغيره عن سفيان فقال بعد قوله في القتلى : " فقرأ إلى والأنثى بالأنثى فمن عفي له " ، ووقع في رواية الحميدي المذكورة ما حذف هنا من الآية وزاد في آخره تفسير قوله : ذلك تخفيف من ربكم وزاد فيه أيضا تفسير قوله : فمن اعتدى أي قتل بعد قبول الدية . وقد اختلف في تفسير العذاب في هذه الآية فقيل : يتعلق بالآخرة وأما في الدنيا فهو لمن قتل ابتداء وهذا قول الجمهور ، وعن عكرمة وقتادة والسدي يتحتم القتل ولا يتمكن الولي من أخذ الدية .

                                                                                                                                                                                                        وفيه حديث جابر رفعه : " لا أعفو عمن قتل بعد أخذ الدية " أخرجه أبو داود وفي سنده انقطاع ، قال أبو عبيد : ذهب ابن عباس إلى أن هذه الآية ليست منسوخة بآية المائدة أن النفس بالنفس بل هما محكمتان ، وكأنه رأى أن آية المائدة مفسرة لآية البقرة وأن المراد بالنفس نفس الأحرار ذكورهم وإناثهم دون الأرقاء فإن أنفسهم [ ص: 218 ] متساوية دون الأحرار .

                                                                                                                                                                                                        وقال إسماعيل : المراد في النفس بالنفس المكافئة للأخرى في الحدود ; لأن الحر لو قذف عبدا لم يجلد اتفاقا ، والقتل قصاصا من جملة الحدود ، قال وبينه قوله في الآية والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له فمن هنا يخرج العبد والكافر لأن العبد ليس له أن يتصدق بدمه ولا بجرحه ، ولأن الكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه .

                                                                                                                                                                                                        قلت : محصل كلام ابن عباس يدل على أن قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أي على بني إسرائيل في التوراة أن النفس بالنفس مطلقا فخفف عن هذه الأمة بمشروعية الدية بدلا عن القتل لمن عفا من الأولياء عن القصاص وبتخصيصه بالحر في الحر ، فحينئذ لا حجة في آية المائدة لمن تمسك بها في قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر ، لأن شرع من قبلنا إنما يتمسك منه بما لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وقد قيل : إن شريعة عيسى لم يكن فيها قصاص وإنه كان فيها الدية فقط ، فإن ثبت ذلك امتازت شريعة الإسلام بأنها جمعت الأمرين فكانت وسطى ؛ لا إفراط ولا تفريط ، واستدل به على أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الولي وهو قول الجمهور .

                                                                                                                                                                                                        وقرره الخطابي بأن العفو في الآية يحتاج إلى بيان ، لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر ، لكن المعنى أن من عفي عنه من القصاص إلى الدية فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف وهو المطالبة وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدية بإحسان . وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن الخيار في القصاص أو الدية للقاتل .

                                                                                                                                                                                                        قال الطحاوي : والحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كتاب الله القصاص فإنه حكم بالقصاص ولم يخير ، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما ، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله : " فهو بخير النظرين " أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية .

                                                                                                                                                                                                        وتعقب بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : كتاب الله القصاص إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود فأعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه وليس فيه ما ادعاه من تأخير البيان ، واحتج الطحاوي أيضا بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك أن القاتل لا يجبر على ذلك ولا يؤخذ منه كرها وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه .

                                                                                                                                                                                                        وقال المهلب وغيره : يستفاد من قوله : " فهو بخير النظرين " أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك وإن شاء اقتص وعلى الولي اتباع الأولى في ذلك ، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية ، واستدل بالآية على أن الواجب في قتل العمد القود والدية بدل منه ، وقيل الواجب الخيار ، وهما قولان للعلماء ، وكذا في مذهب الشافعي أصحهما الأول .

                                                                                                                                                                                                        واختلف في سبب نزول الآية فقيل نزلت في حيين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الشرف فكانوا يتزوجون من نسائهم بغير مهر وإذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا أو امرأة قتلوا بها رجلا ، أخرجه الطبري عن الشعبي ، وأخرج أبو داود من طريق علي بن صالح بن حي عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة يودى بمائة وسق من التمر ، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه لنا نقتله ، فقالوا بيننا وبينكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتوه فنزلت وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط والقسط : النفس بالنفس ، ثم نزلت أفحكم الجاهلية يبغون .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد ولو كان غيلة وهو أن يخدع شخصا حتى يصير به إلى موضع خفي فيقتله ، خلافا للمالكية ، وألحقه مالك بالمحارب فإن الأمر فيه إلى السلطان وليس للأولياء العفو عنه ، وهذا على أصله في أن حد المحارب [ ص: 219 ] القتل إذا رآه الإمام وأن " أو " في الآية للتخيير لا للتنويع ، وفيه أن من قتل متأولا كان حكمه حكم من قتل خطأ في وجوب الدية لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإني عاقله " .

                                                                                                                                                                                                        واستدل به بعض المالكية على قتل من التجأ إلى الحرم بعد أن يقتل عمدا خلافا لمن قال لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج منه ، ووجه الدلالة أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله في قصة قتيل خزاعة المقتول في الحرم ، وأن القود مشروع فيمن قتل عمدا ، ولا يعارضه ما ذكر من حرمة الحرم فإن المراد به تعظيمه بتحريم ما حرم الله ، وإقامة الحد على الجاني به من جملة تعظيم حرمات الله ، وقد تقدم شيء من هذا في الموضع الذي أشرت إليه آنفا من كتاب الحج .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية