الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6498 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال خرجت في غزوة فعض رجل فانتزع ثنيته فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني : قوله : ( حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج ) كذا وقع هنا بعلو درجة ، وتقدم له في الإجارة والجهاد والمغازي من طريق ابن جريج بنزول لكن سياقه فيها أتم مما هنا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عطاء ) هو ابن أبي رباح ( عن صفوان بن يعلى ) وفي رواية ابن علية في الإجارة : " أخبرني عطاء " ، وفي رواية محمد بن أبي بكر في المغازي : " سمعت عطاء أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية " ، وكذا لمسلم من طريق أبي أسامة عن ابن جريج .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبيه ) في رواية ابن علية : " عن يعلى بن أمية " وفي رواية حجاج بن محمد عند أبي نعيم في المستخرج " أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية أنه سمع يعلى " ، وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى عن أبيه ، ومن طريق همام عن عطاء كذلك ، وهي عند البخاري في الحج مختصرة مضمومة إلى حديث الذي سأل عن العمرة .

                                                                                                                                                                                                        ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة وفيها مخالفة لرواية شعبة من وجهين أحدهما أنه أدخل بين قتادة وعطاء بديل بن ميسرة والآخر أنه أرسله ، ولفظه عن صفوان بن يعلى : " أن أجيرا ليعلى بن أمية عض رجل ذراعه " .

                                                                                                                                                                                                        وقد اعترض الدارقطني على مسلم في تخريجه هذه الطريق وتخريجه طريق محمد بن سيرين عن عمران وهو لم يسمع منه ، وأجاب النووي بما حاصله : أن المتابعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في الأصول ، وهو كما قال .

                                                                                                                                                                                                        ومنية التي نسب إليها يعلى هنا هي أمه وقيل جدته والأول المعتمد ، وأبوه كما تقدم في الروايات أمية بن أبي عبيد بن همام بن الحارث التميمي الحنظلي ، أسلم يوم الفتح وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بعدها كحنين والطائف وتبوك ، و " منية " أمه بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية هي بنت جابر عمة عتبة بن غزوان وقيل أخته ، وذكر عياض أن بعض رواة مسلم صحفها وقال : منبه بفتخ النون وتشديد الموحدة ، وهو تصحيف ، وأغرب ابن وضاح فقال : منية بسكون النون أمه ، وبفتحها ثم موحدة أبوه ولم يوافقه أحد على ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خرجت في غزوة ) في رواية الكشميهني " في غزاة " ، وثبت في رواية سفيان أنها غزوة تبوك ، ومثله في رواية ابن علية بلفظ : " جيش العسرة " وبه جزم غير واحد من الشراح ، وتعقبه بعض من لقيناه بأن [ ص: 232 ] في " باب من أحرم جاهلا وعليه قميص " من كتاب الحج في البخاري من حديث يعلى : " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل عليه جبة بها أثر صفرة " فذكر الحديث وفيه : " فقال اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك ، وعض رجل يد رجل فانتزع ثنيته فأبطله النبي - صلى الله عليه وسلم - " فهذا يقتضي أن يكون ذلك في سفر كان فيه الإحرام بالعمرة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وليس ذلك صريحا في هذا الحديث ، بل هو محمول على أن الراوي سمع الحديثين فأوردهما معا عاطفا لأحدهما على الآخر بالواو التي لا تقتضي الترتيب ، وعجيب ممن يتكلم عن الحديث فيرد ما فيه صريحا بالأمر المحتمل ، وما سبب ذلك إلا إيثار الراحة بترك تتبع طرق الحديث فإنها طريق توصل إلى الوقوف على المراد غالبا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فعض رجل فانتزع ثنيته ) كذا وقع عنده هنا بهذا الاختصار المجحف ، وقد بينه الإسماعيلي من طريق يحيى القطان عن ابن جريج ولفظه : " قاتل رجل آخر فعض يده فانتزع يده فانتدرت ثنيته " ، وقد بينت اختلاف طرقه في الذي قبله .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخذ بظاهر هذه القصة الجمهور فقالوا : لا يلزم المعضوض قصاص ولا دية لأنه في حكم الصائل ، واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه ، فكذا لا يضمن سنه بدفعه إياه عنها ، قالوا ولو جرحه المعضوض في موضع آخر لم يلزمه شيء ، وشرط الإهدار أن يتألم المعضوض وأن لا يمكنه تخليص يده بغير ذلك من ضرب في شدقيه أو فك لحيته ليرسلها ، ومهما أمكن التخليص بدون ذلك فعدل عنه إلى الأثقل لم يهدر ، وعند الشافعية وجه أنه يهدر على الإطلاق ، ووجه أنه لو دفعه في ذلك ضمن .

                                                                                                                                                                                                        وعن مالك روايتان أشهرهما يجب الضمان ، وأجابوا عن هذا الحديث باحتمال أن يكون سبب الإنذار شدة العض لا النزع فيكون سقوط ثنية العاض بفعله لا بفعل المعضوض ؛ إذ لو كان من فعل صاحب اليد لأمكنه أن يخلص يده من غير قلع ، ولا يجوز الدفع بالأثقل مع إمكان الأخف .

                                                                                                                                                                                                        وقال بعض المالكية : العاض قصد العضو نفسه والذي استحق في إتلاف ذلك العضو غير ما فعل به فوجب أن يكون كل منهما ضامنا ما جناه على الآخر ، كمن قلع عين رجل فقطع الآخر يده . وتعقب بأنه قياس في مقابل النص فهو فاسد .

                                                                                                                                                                                                        وقال بعضهم : لعل أسنانه كانت تتحرك فسقطت عقب النزع ، وسياق هذا الحديث يدفع هذا الاحتمال ، وتمسك بعضهم بأنها واقعة عين ولا عموم لها ، وتعقب بأن البخاري أخرج في الإجارة عقب حديث يعلى هذا من طريق أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه وقع عنده مثل ما وقع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضى فيه بمثله ، وما تقدم من التقييد ليس في الحديث وإنما أخذ من القواعد الكلية ، وكذا إلحاق عضو آخر غير الفم به فإن النص إنما ورد في صورة مخصوصة ، نبه على ذلك ابن دقيق العيد .

                                                                                                                                                                                                        وقد قال يحيى بن عمر : لو بلغ مالكا هذا الحديث لما خالفه ، وكذا قال ابن بطال : لم يقع هذا الحديث لمالك وإلا لما خالفه ، وقال الداودي : لم يروه مالك لأنه من رواية أهل العراق .

                                                                                                                                                                                                        وقال أبو عبد الملك كأنه لم يصح الحديث عنده لأنه أتى من قبل المشرق .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وهو مسلم في حديث عمران ، وأما طريق يعلى بن أمية فرواها أهل الحجاز وحملها عنهم أهل العراق ، واعتذر بعض المالكية بفساد الزمان ، ونقل القرطبي عن بعض أصحابهم إسقاط الضمان ، قال وضمنه الشافعي وهو مشهور مذهب مالك ، وتعقب بأن المعروف عن الشافعي أنه لا ضمان ، وكأنه انعكس على القرطبي .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        لم يتكلم النووي على ما وقع في رواية ابن سيرين عن عمران ، فإن مقتضاها إجراء القصاص في العضة ، وسيأتي البحث فيه مع القصاص في اللطمة بعد بابين .

                                                                                                                                                                                                        وقد يقال : إن العض هنا إنما أذن فيه للتوصل إلى [ ص: 233 ] القصاص في قلع السن ، لكن الجواب السديد في هذا أنه استفهمه استفهام إنكار لا تقرير شرع ، هذا الذي يظهر لي ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وفي هذه القصة من الفوائد التحذير من الغضب ، وأن من وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع لأنه أدى إلى سقوط ثنية الغضبان ، لأن يعلى غضب من أجيره فضربه فدفع الأجير عن نفسه فعضه يعلى فنزع يده فسقطت ثنية العاض ، ولولا الاسترسال مع الغضب لسلم من ذلك .

                                                                                                                                                                                                        وفيه استئجار الحر للخدمة وكفاية مؤنة العمل في الغزو لا ليقاتل عنه كما تقدم تقريره في الجهاد .

                                                                                                                                                                                                        وفيه رفع الجناية إلى الحاكم من أجل الفصل ، وأن المرء لا يقتص لنفسه ، وأن المتعدي بالجناية يسقط ما ثبت له قبلها من جناية إذا ترتبت الثانية على الأولى .

                                                                                                                                                                                                        وفيه جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل ، وقد حكى الكرماني أنه رأى من صحف قوله : " كما يقضم الفجل " بالجيم بدل الحاء المهملة وحمله على البقل المعروف ، وهو تصحيف قبيح .

                                                                                                                                                                                                        وفيه دفع الصائل وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدرا ، وللعلماء في ذلك اختلاف وتفصيل معروف .

                                                                                                                                                                                                        وفيه أن من وقع له أمر يأنفه أو يحتشم من نسبته إليه إذا حكاه كنى عن نفسه بأن يقول : فعل رجل أو إنسان أو نحو ذلك كذا ، وكذا كما وقع ليعلى في هذه القصة ، وكما وقع لعائشة حيث قالت : " قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ، فقال لها عروة : هل هي إلا أنت؟ فتبسمت " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية