الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما قرر سبحانه الأصل الدال على التوحيد وإثبات العدل والحرمة بالبعث للفصل، وكانوا يقولون: إنهم أعقل الناس، وكان العاقل لا يأمن غوائل الإنذار إلا إن أعد لها ما يتحقق دفعه لها وكان لا يقدر على دفع المتوعد إلا من يساويه أو يزيد عليه بشركة أو غيرها، وكانوا يدعون في أصنامهم أنها شركاء، بنى على ذلك الأصل تفاريعه، وبدأ بإبطال متمسكهم فقال سبحانه وتعالى آمرا له صلى الله عليه وسلم بأن ينبههم على سفههم بأنهم أعرضوا عما قد يضرهم من غير احتراز منه دالا على عدم إلهية ما دعوه آلهة بعدم الدليل على إلهيتها من عقل أو نقل، لأن منصب الإلهية لا يمكن أن يثبت [و] له من الشرف ما هو معلوم [ ص: 124 ] بغير دليل قاطع: قل أي: لهؤلاء المعرضين أنفسهم لغاية الخطر منكرا عليهم تبكيتا وتوبيخا: أرأيتم أي: أخبروني بعد تأمل ورؤية باطنة ما تدعون أي: دعاء عبادة، ونبه على سفولهم بقوله تعالى: من دون الله أي: الملك الأعظم الذي كل شيء دونه، فلا كفوء له.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من المعلوم أن الاستفهام عن رؤية ما مشاهدتهم له معلومة لا يصح إلا بتأويل أنه عن بعض الأحوال، وكان التقدير: أهم شركاء في الأرض، استأنف قوله: أروني وأكد الكلام بقوله سبحانه وتعالى: ماذا خلقوا أي اخترعوه من الأرض ليصح ادعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء. ولما كان معنى الكلام وترجمته: أروني أهم شركاء في الأرض؟ عادله بقوله: أم لهم أي: الذين تدعونهم شرك في السماوات أي: نوع من أنواع الشركة: تدبير - كما يقول أهل الطبائع، أو خلق أو غيره، أروني ذلك الذي خلقوه منها ليصح ادعاؤكم فيهم واعتمادكم عليهم بسببه.

                                                                                                                                                                                                                                      فالآية من الاحتباك: ذكر الخلق أولا دليلا على حذفه ثانيا، والشركة ثانية دليلا على حذفها أولا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 125 ] ولما كان الدليل أحد شيئين: سمع وعقل، قال تعالى: ائتوني [أي] حجة على دعواكم في هذه الأصنام أنها خلقت شيئا، أو أنها تستحق أن تعبد بكتاب أي: واحد يصح التمسك به، لا أكلفكم إلى الإتيان بأكثر من كتاب واحد. ولما كانت الكتب متعددة ولم يكن كتاب قبل القرآن عاما لجميع ما سلف من الزمان، أدخل الجار فقال تعالى: من قبل هذا [أي] الذي نزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوة فإنها كلها شاهدة بالوحدانية، لو أتى بها آت لشهدت عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به، وهو النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه الذي منه العقل، وأقنع [منه] ببقية واحدة ولو كانت أثرا لا عينا فقال: أو أثارة أي: بقية رسم صالح للاحتجاج، قال ابن برجان : وهي البقية من أثر كل شيء يرى بعد ذهابه وحال رؤيته بأثرها خلف عن سلف يتحدثون بها في آثارهم، قال البغوي : وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية. من علم [ ص: 126 ] أي قطعي بضرورة أو تجربة أو مشاهدة أو غيره ولو ظنا يدل على ما ادعيتم فيهم من الشركة. ولما كان لهم من النفرة من الكذب واستشناعه واستبشاعه واستفظاظه ما ليس لأمة من الأمم، أشار إلى تقريعهم بالكذب إن لم يقيموا دليلا على دعواهم بقوله تعالى: إن كنتم أي: بما هو لكم كالجبلة صادقين أي: عريقين في الصدق على ما تدعون لأنفسكم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية