الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( الثالثة ) الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين مجمل ومفصل ، أما المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه ، ولا بدنا كانت فيه أبدا فإن عذاب القبر بل وعذاب الآخرة أثر غضب [ ص: 18 ] الله وسخطه على عبده فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار بارتكاب مناهيه ولم يتب ومات على ذلك كان له عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه فمستقل ومستكثر ومصدق ومكذب .

وأما المفصل فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما أن أحدهما كان يمشي بالنميمة بين الناس والآخر كان لا يستتر من البول ، والحديث في الصحيحين وغيرهما . ولفظه : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ; أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " . ثم أخذ جريدة رطبة فشقها باثنتين ثم غرز على كل قبر منهما واحدة ، قالوا لم فعلت هذا يا رسول الله ؟ قال : " لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا " .

قال الحافظ ابن رجب في كتابه أهوال القبور : وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى من وجوه متعددة من حديث أبي بكر وعائشة وأبي هريرة وأنس وابن عمر وأبي أمامة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .

قال المحقق ابن القيم في الروح فهذا ترك الطهارة الواجبة وهذا ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا وفيه تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذابا كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض شروطها أشد عذابا .

وفي حديث شعبة : " أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس " فهذا مغتاب وذاك نمام .

وفي صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق ، وفي حديث ابن مسعود في الذي ضرب في قبره سوطا امتلأ القبر عليه نارا لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور ، ومر على مظلوم فلم ينصره ، وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار ، وتعذيب الزناة والزواني ، وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم في البرزخ ، وحديث أبي هريرة وفيه : رضخ رءوس أقوام بالصخر لتثاقل رءوسهم عن الصلاة ، والذين يأكلون الزقوم والضريع لتركهم الزكاة ، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم ، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب .

[ ص: 19 ] ومن الذين يعذبون في قبورهم وأخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم : الجبارون والمتكبرون والمراءون والهمازون واللمازون والطعانون على السلف والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم وأعوان الظلمة الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم ونحو هؤلاء ممن يشتغل بذنوب الناس عن ذنبه وبعيوبهم عن عيبه فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغرها وكبرها ، ولما كان أكثر الناس كذلك كان أصحاب القبور معذبين والفائز منهم قليل ، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب ، فنسأل الله تعالى العافية والرحمة والعفو والغفران وبالله الإعانة والعون .

التالي السابق


الخدمات العلمية