الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
1- شـروط الإنجـاز

إن تطبيق الأحكام الدينية يهدف إلى تكييف واقع إنساني نفسي وسلوكي ليتجه الوجهة المرسومة في الدين، وهو بذلك يلاقي عوامل مضادة في واقع التركيب الإرادي النفسي للإنسان، وفي واقع المعهود الاجتماعي النزاع إلى المحافظة على نفسه، والتأبي على التكيف الجديد، وعلى هـذا الاعتبار فإن تطبيق الأحكام الدينية يستلزم التمهيد له لكي يتم بنجاعة، وذلك بتوفير جملة من الشروط الضرورية، التي تهيئ الظرف النفسي والمادي، لتجد الأحكام [ ص: 104 ] طريقها إلى تكييف الحياة، بما تحرز تلك التهيئة من مغالبة عوامل الإباء النفسية والاجتماعية.

والتغاضي عن هـذه الشروط المهيأة للتطبيق، وإهمال العمل على توفيها يفضي لا محالة إلى أيلولة ذلك التطبيق إلى التعثر والاضطراب، بل إلى الفشل في كثير من الأحيان، وفي تاريخ الدعوة الإسلامية قديما وحديثا شواهد عديدة على هـذا الأمر، ومن ذلك ما نراه اليوم من محاولات تطبيق بعض الأحكام الشرعية بصفة جزئية، في ظروف غير مهيأة نفسيا وماديا، فلا تؤتي تلك المحاولات أكلها، وكثيرا ما تنكفئ خاسرة، وقد نبه إلى ذلك أبو الأعلى المودودي رحمه الله حيث قال: "إنه لو خول المسلمين اليوم أن يؤسسوا دولة في بقعة من بقاع الأرض لما استطاعوا أن يقوموا بإدارة شئونها، وتسيير دفتها وفق المبادئ الإسلامية ولا ليوم واحد، فإنكم معشر المسلمين لم تعدوا المعدات اللازمة، ولا هـيأتم العوامل الكافية ". [1]

ثم يضرب عدة أمثلة تاريخية تبين فيها فشل التطبيق لأحكام الشريعة، بسبب من غياب المعدات والشروط الضرورية لذلك. [2] [ ص: 105 ]

ويجدر التنبيه إلى أنه ينبغي الاحتراز من المبالغة في التذرع بعدم توفر الشروط، لتأجيل الإنجاز للأحكام الدينية، وهي مبالغة قد تفضي إلى تعطيل دائم لا يعرف له حد، بدعوى أن الظروف لم تهيأ بعد، وهو ما يراه اليوم بعض الدعاة، من أنه لا يمكن تنزيل الأحكام الدينية في واقع المجتمع، حتى ينصلح أمر الحكم بميزان الدين تمام الانصلاح، فتجري الأمور كلها بذلك على وزان واحد من الشرع، ويشبه هـذا ما رآهن بعض الخوارج قديما، من أن صلاة الجمعة لا ينبغي أن تنعقد إلا في ظل السلطان القائم بالدين، وإنما المقصود بتوفير الشروط، العمل على تهيئة الظروف الملائمة لإنجاز الأحكام، بما هـو متاح من الوسائل القريبة، التي تضمن قدرا أدنى من نجاح الإنجاز وبلوغه غايته، مع اعتبار الاختلاف في طبيعة الأحكام، مما يستلزم اختلافا في الشروط بالنوع أحيانا، وبالكيفية أحيانا أخرى.

وليست الشروط التي نقصدها في هـذا المقام فرصا تتاح بصفة تلقائية، ويكون الموقف منها موقف التحين لوقوعها، فيقع اهتبالها لإنجاز أحكام الشريعة بمناسبات حصولها، وإنما هـي شروط تجعل جعلا، ويسعى في توفيرها سعيا، فهي من صميم الفقه الإنجازي بما هـي مرحلة أولى من مراحل الإنجاز تتوقف عليها مرحلة الإنجاز، الفعلي، ونحسب أن هـذه الشروط ترجع إلى شرطين أساسيين: الوعي والاقتناع، ثم التأطر الاجتماعي. [ ص: 106 ]

أ: الوعي والاقتناع لكي تأخذ الأحكام الدينية طريقها إلى الإنجاز الصحيح، كمشروع إصلاحي متكامل، لا بد أن يتوفر لدى الناس المراد تطبيقها فيهم قدر أدنى من الوعي، والاقتناع بها، أما الوعي فهو الفهم الجملي لمجموع التشريع، من حيث حقيقته وطبيعته، ومن حيث أهدافه، وأما الاقتناع فهو التصديق بأحقيته، واليقين من نجاعته في الإصلاح.

وقد كان السعي في تحقيق هـذا الشرط سنة نبوية، حيث ظل النبي صلى الله عليه وسلم سنوات طوالا يبشر الناس بالشريعة الإسلامية، ابتداء بالأسس العقدية، ثم بيانا للتكاليف السلوكية، ولم يقدم على تنزيل الشرع الإسلامي تنزيلا شاملا، إلا لما حصل قدر كاف من فهمه والاقتناع به، في البيئة التي طبقه فيها، رغم أن آحاد الأفراد من أتباعه كان حصل لديهم هـذا الشرط منذ الأيام الأولى للدعوة، ولكن إرادة الله في تنجيم التشاريع كأنما كانت تعليما للإنسان كي يكسب الوعي والاقتناع أولا، ثم ينفذ بعد ذلك ما يعيه ويقتنع به من تشريع.

وإذا كانت الأمة الإسلامية بعد عهد النبوة قد شاع فيها الشرع السلوكي، بالفهم والاقتناع والتنزيل في أغلب الأحوال، فإن الظرف الذي تعيشه الآن وآل إليه أمرها من بعض الزمن يشبه من [ ص: 107 ] بعض الوجوه الظرف الذي عاشه الإسلام في أول عهده، فيحتاج فيه المسلمون لذلك إلى فقه تنزيلي، من جنس فقه التنزيل الذي أنجز به الدين في ذلك الظرف.

إن المسلمين اليوم لا يعيشون عهد جاهلية كما يظنه بعض الناس، بل هـم يعيشون حياة طابعها العام إسلامي، ولكن مظاهر جاهلية تغشى بعض جوانبها، وتختلف ضيقا واتساعا بحسب المجالات، حتى لتبلغ في المجال الاجتماعي والاقتصادي من السعة ما يكاد ينحسر به الشرع تمام الانحسار، وليست هـذه العطالة في تطبيق الشريعة في مجالات عدة من حياة المسلمين بسبب من كسل أو جهل فحسب، ولكن أيضا بسبب من اقتناع مذهبي بأن الدين ينحصر سلطانه في دائرة الفرد الذاتية، ولا أمر له ولا نهي، في مجال العلاقات الاجتماعية العامة، بأنواعها المختلفة، وتلك هـي العلمانية التي يعتنقها في العالم الإسلامي كثير، بين مبيت لهدم الدين أصلا من خلالها، وبين غافل عن حقيقة الشمول في طبيعة الدين الإسلامي، متوهم أن العلمانية وجه من وجوه التفسير لهذا الدين.

هذا الوضع الذي تعطل فيه إنجاز القسم الكبير من تعاليم الشريعة الإسلامية بسبب تداخل فيه الكسل والجهل وانحراف الفهم، لا يمكن أن تقوم فيه دعوة إلى الإنجاز إلى بالعمل أولا على توفير المناخ النفسي والثقافي، الذي يتم فيه الإنجاز، وإلا فإنه [ ص: 108 ] سيكون كالنبتة التي تزرع في أرض غير ملائمة، فلا تلبث أن تئول إلى الذبول.

ولا شك أن التجربة النبوية في توفير عامل الوعي والاقتناع لإنجاز الدين، ستكون معينا للاستهداء في الظرف الراهن لتشابه الحالين، إلا أن عناصر التميز في هـذا الظرف ينبغي أن تعتبر في إثراء الفقه الإنجازي في توفير هـذا العامل؛ ولذلك فإنه ليس يكفي في حصول الوعي والاقتناع أن يعتمد التبشير بالأساس العقدي للدين، وتعميق الوعي به باعتبار أن الإيمان بالعقيدة الإسلامية إيمانا واعيا صحيحا يثمر في النفس إقبالا تلقائيا على إنجاز الشريعة العملية، وهو ما كان يحصل في العهد الإسلامي الأول.

وإنما كان التبشير بالأساس العقدي غير كاف في ظروف المسلمين الراهنة، لحصول الوعي والاقتناع بنظام الشريعة، وإن يكن الخطوة الضرورية الأولى، التي لا غنى عنها، لما يشهده حاضر المسلمين اليوم من غزو رهيب، استهدف بصفة مباشرة نظام التشريع بوجوه عديدة، تتراوح بين التسلط النفسي المورث للشعور بالهزيمة الحضارية المؤدية إلى الافتتان بالنظام القانوني الاجتماعي لأهل الحضارة الغالبة، وبين الإغواء المادي الرهيب، الذي تنفثه حضارة الاستهلاك والإباحية، فتميع به الإرادة، فإذا بها في موقع النكول عن سمت الشريعة، فيما يشبه المرضى النفسي، [ ص: 109 ] الذي صوره الإمام محمد عبده في حق بعض الناس، ممن يوجد أضرابهم اليوم، من المنتسبين للإسلام، إذ قال فيهم: "جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر أن يخالط الدليل أذهانهم، فيلزمهم العقيدة تتبعها الشريعة، فيحرموا لذة ما ذاقوا وما يحبون أن يذوقوا، وهو مرض في النفس والقلوب" [3] .

كما كان لهذا الغزو صولة فكرية، استهدفت نظام التشريع الإسلامي بالهدم المنظر المتمسح بمسوح العقلانية والعلم.

وقد استطاعت هـذه الأساليب المتراوحة، من التأثير على الأمة الإسلامية في الارتخاء عن إنجاز الشريعة ارتخاء أصاب منها الإرادة والفكر جميعا. ولم يكن الأمر كذلك في العهد الإسلامي الأول حيث كان الناس في جاهلية مطبقة، فجاء الدين فرقانا قاطعا بين كفر مظلم للنفس فيما يكون عليه الرجل في جاهليته، وبين هـداية مشرقة فيما يصبح عليه بعد الإيمان، فإذا بهذا الانقلاب يحدث في الإرادة استسلاما لكل ما يأتي به الدين من تشريع، فلا تبقى حاجة إلا للعلم بكيفيات ذلك التشريع وتفاصيله، حتى يصبح واقعا تجري به الحياة، ولم يكن ثمة إذن مجال لوضع من "التمارض" الذي يختلط فيه تصديق بأصول الدين، بتراخ إرادي عن إنجاز مقتضياتها [ ص: 110 ] السلوكية، كما يختلط فيه الإيمان ببعض الكتاب، مع الكفر ببعض آخر كما هـو الحال بالنسبة لواقع المسلمين اليوم.وإذ نحسب أن السعي لإيقاظ العقيدة في نفوس المسلمين، وتعميق الوعي بها، قد تم على أيدي رواد الصحوة الإسلامية، منذ أوائل هـذا القرن، وأنه حقق قدرا كبيرا من ثماره في تحقيق عامل الوعي والاقتناع، كشرط ضروري للإنجاز، فإننا نرى أن المرحلة الراهنة تستلزم تكثيف الجهود في سبيل التوعية والإقناع بالمنظومة التشريعية في نفسها، ليقع وقوف الناس عيانا على حقانية هـذه المنظومة ونجاعتها، من خلال ذاتها، لا من خلال مبادئها العقدية فحسب، وأن يتجه بذلك للناس على اختلاف أوضاعهم الآنفة الذكر، حتى يعم فيهم تحقق شرط الوعي والاقتناع، فيكون عاملا حقيقيا لنجاح الإنجاز.

ولم يخل السعي إلى الإقناع بالشريعة من محاولات منذ بعض السنوات، إلى جانب السعي في الإقناع بالعقيدة، إلا أن هـذا السعي لم يتخذ على ما نراه من المنهج الصحيح ما يحقق الغاية منه، وظل ينزع منزع التعميم، حبيسا في بعض مقولات، ذات طابع شعاري، هـو أقرب إلى الدعوة العقدية، منه إلى التبشير بالمنهج السلوكي العملي، وذلك مثل مقولة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومقولة فطرية الشريعة، وما شابهها من [ ص: 111 ] مقولات عامة، على أنه لم تعدم مع هـذا التعميم محاولات ناجحة في البرهان العملي على بعض التشريعات الإسلامية في المجال الاقتصادي على وجه الخصوص.

ومما نحسبه فقها إنجازيا ناجحا في الإقناع بالشريعة الإسلامية والتوعية بها، أن تؤخذ بالبرهان في موضوعها على درجتين متكاملتين: درجة تعالج فيها بالتبشير منظومة متكاملة، ودرجة تعالج فيها أنظمة جزئية بحسب مجالات الحياة، وأحكاما تفصيلية بحسب ما تثيره من توتر تطبيقي في ساحة الواقع.

ففي الدرجة الأولى من المفيد أن تقدم الشريعة الإسلامية منظومة متكاملة لهداية الحياة، معارضة لما وقر في نفوس كثير، من أن تطبيق الشريعة يعني تطبيق بعض الحدود في الجنايات، وبعض الأحكام في مجال لأحوال الشخصية، وهو المفهوم الذي يدور عليه الجدل اليوم في قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، فمن مستلزمات التصحيح لهذا المفهوم الخاطئ، الذي يحمله الكثير أن يقع التركيز على عنصر التكامل في المنظومة الشرعية، من حيث ما يحققه ذلك التكامل من توازن في حياة الإنسان، وأن تعرض هـذه المنظومة في تكافؤ بين أبعادها التعبدية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية دون تضخيم لبعضها على حساب [ ص: 112 ] بعض، كما حصل في التراث الفقهي، الذي تضخم فيه الجانب التعبدي الفردي، على البعد الاجتماعي السياسي، حتى جاء هـذا البعد فقيرا من عناصر الإقناع حيثما استيقظ المسلمون على عالم يحتل فيه هـذا البعد ركنا أساسيا من الحياة.

ولو تأملنا اليوم المذاهب والفلسفات المتصارعة في الساحة العالمية ممتدة إلى الرقعة الإسلامية نفسها، لألفيناها تعرض تشريعها العملي منظومة مترابطة الحلقات، مستوفية الأبعاد، مدعومة بفقه فلسفي، يهدف على اختلاف وجوهه إلى البرهان على صحة هـذه المنظومة في جملتها، وإقناع الناس بتبنيها. فإذا بالتشريعات القانونية تدعمها فلسفة القانون، والتشريعات السياسية تدعمها فلسفة السياسة، والتشريعات الثقافية تدعمها فلسفة الثقافة، وكل ذلك في سبيل إبراز مذهبية سلوكية إبرازا شاملا، يسعى إلى سيادتها علميا، ويتنافس في هـذا المسعى الأنموذج الشيوعي والأنموذج الليبرالي الغربي، ولا نرى الشريعة الإسلامية تحظى من قبل أهلها بمثل هـذا الدعم، الذي يبرزها مذهبية تطاول المذهبيتين المذكورتين، وإنما هـي معروضة للناس كأنما هـي مفكوكة الأوصال، مفتقرة إلى البرهان الفلسفي، الذي يقدمها مذهبية متكاملة قوية، وربما كان علم أصول الفقه العلم المهيأ لأن [ ص: 113 ] يكون السند الفلسفي للمنظومة الشرعية، لولا أنه تجمد منذ زمان، ولما تدب فيه الحياة من جديد بعد.

وفي الدرجة الثانية، فإنه من المفيد أن تؤخذ الشريعة أجزاء، بحسب الأنظمة التي تتعلق بكل جانب من جوانب الحياة، كالنظام: الاقتصادي، والسياسي، والأسري، وغيرها، فيقع التبشير بها في تفاصيلها، وبيان عناصر القوة فيها، وإظهار نجاعتها في حل المشاكل الراهنة للمسلمين. وربما وقع التركيز على تلك الأحكام التي تثير اليوم جدلا واسعا، فأصبح الكثير من المسلمين يتنحون منها بوجوه مختلفة من التنحي لشدة الضغوط المسلطة عليها، وعنف الهجوم الموجه إليها، فتشرح تلك الأحكام على وجهها الصحيح، مع بيان شروطها في الإيقاع، وغاياتها البعيدة والقريبة في هـداية السلوك إلى تحقيق المصلحة. ومن ذلك كله يتكون فقه استدلالي على أحكام الشريعة، يوازي الفقه التقريري البياني، من شأنه أن يدعم هـذه الأحكام، فتستعيد النفوس الواهية الثقة بها، بما تستيقن من حقانيتها ونجاعتها في ميزان المصلحة.

وسواء في البرهان الجملي على الشريعة عامة، أو في البرهان الجزئي على تفاصيلها، ينبغي أن يتخذ الأسلوب المناسب في الاستدلال على النمو، الذي مر تفصيله في حديثنا عن صياغة [ ص: 114 ] العقيدة مراعاة لطبيعة العقلية الراهنة في طرائق فهمها واقتناعها. وإن في المقارنة بين التشريع الإسلامي وبين التشريعات الغربية السائدة مجالا ثريا لنصرة الشريعة الإسلامية، بإبراز مواطن الفشل التي آل إليها التشريع الغربي في حياة الأسرة والروابط الاجتماعية على سبيل المثال، واهتبال هـذه المقارنة، لبيان أن البديل لهذه التشريعات الفاشلة، إنما هـو الشريعة الإسلامية، بيانا يعتمد الاستدلال العلمي المحسوب، على ما تحققه هـذه الشريعة من منافع للإنسان، وحلول لمشاكله المستعصية، بتعقد الحياة تعقدا متسارعا بمرور الأيام.

ولا شك أنه متى بذل الجهد في سبيل الإقناع بالشريعة الإسلامية في هـذا الزمن، الذي تنكب فيه كثير من المسلمين عنها، تراخيا وانهزاما أو انحراف فهم، وكان ذلك الجهد موجها بفقه مناسب في التوعية والإقناع، فإن الأمة في مجملها تستجيب لنداء الإنجاز، فتحمله بإرادة قوية، وتمضي فيه بدافع الاستيقان بما يكون ضامنا لنجاحه، فيتوفر بذلك شرط أساسي من شروط إنجاز الشريعة، وهو شرط نفسي إرادي يفشل في غيابه كل نظام، حينما يوضع موضع الإنجاز.

وليس توفير هـذا الشرط بعزيز المنال، رغم ما يساور المتأمل في أحوال الأمة من شعور بالاستصعاب قد يشرف به أحيانا على [ ص: 115 ] اليأس؛ ذلك لأن هـذه الأمة تشبه أن تكون قد استصحبت في كوامنها من عرفان الله، والتسليم بشريعته، ما ظل ثابتا مستورا، لم تستطع أن تطاله فتنة هـذا العصر وغوايته، مثلما استطاعت أن تطال من ظواهر الأفعال والتصرفات؛ ولذلك يكون التبشير بالشريعة الإلهية بإيقاظ تلك الكوامن المستورة مؤذنا باستجابة قريبة، من حيث ظنت لأول الأمر أنها بعيدة، وذلك ما وصفه أحد فقهاء الدعوة المعاصرين في قوله: "لا تزال في كوامن فطرة المجتمع أقدارا من التدين، ولذلك بالتذكير القليل تستيقظ هـذه الأقدار كلها، وتكاد تحدث معجزة في دفع التحول... وإننا نشاهد اليوم كيف تتم المعجزات الحقيقية في الانتقال، وكيف نتصور المعضلة الكبيرة، التي نقدر أنها ستكلفنا التكاليف، كيف ييسرها الله سبحانه وتعالى ، إذ يستيقظ الإيمان، فيتصل بقوة الله سبحانه وتعالى ذي الحول والطول." [4]

وليس هـذا القول إلا مشيرا إلى يسر الاستجابة، عند العمل على تحصيل شرط الاقتناع لإنجاز الشريعة، دونما إهمال لهذا الشرط، أو اعتباره حاصلا بالفعل، بمقتضى إسلامية الأمة، كما يظنه بعض الدعاة المتحمسين، الذين يغفلون عن الشروط والأسباب. [ ص: 116 ]

( ب ) التأطر الاجتماعي إن الإسلام دين اجتماعي، غايته أن يؤدي الإنسان مهمة الخلافة في إطار إجتماعي، ومن ثمة كانت العقيدة الإسلامية نفسها، وهي التعاليم التصديقية، ذات بعد اجتماعي، كما يبدو في عقيدة التوحيد، التي لا تنعقد خالصة، إلا بوحدة اجتماعية، يتعامل فيها الناس على أساس من التوجه بالخضوع للإله الواحد، وذلك أحد معاني قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [المائدة:44]. وكذلك مناسك التعبد، فإنها تنطوي على بعد اجتماعي، لا تكون خالصة إلا بتحقيقه، لا يخلو من ذلك شيء منها. مهما بدا في الظاهر شأنا فرديا خاصا. [5]

أما تشاريع المعاملات فهي في بعدها الاجتماعي أظهر، وإذا ما قارنا الحجم الكبير لهذه التشاريع، بجملة التعاليم الإسلامية، تبين لنا عمق البعد الاجتماعي في الدين الإسلامي.

وبناء على هـذه الحقيقة ا لأساسية في الإسلام، فإن هـذا الدين لا يكون له قيام تنجز فيه تعاليمه إلا في إطار اجتماعي، يحقق الإنسان بإنجازها في هـذا الإطار مهمة الخلافة: ترقية للذات، وتعميرا في الأرض. وهذه خاصية لهذا الدين من بين الأديان، فإن [ ص: 117 ] الديانات الأخرى يضمر فيها البعد الاجتماعي، ويتضخم فيها البعد الذاتي، القائم على خلاص الفرد، حتى ليمكن أن يكون لها نوع تحقق في إطار فردي، في غياب الإطار الاجتماعي، أو في وجوده على نحو لا يختلف كثيرا بين الوضعين.

ومن دلالات توقف الإنجاز الديني، على توفر الإطار الاجتماعي، أن الدعوة الإسلامية في عهد النبوة لم يفرض فيها من التشريعات شيء يذكر في العقد المكي، بما في ذلك التشريعات التعبدية؛ لأن المسلمين كانوا في هـذا الطور أفرادا، وحينما تكون في المدينة إطار اجتماعي، تكثفت فروض التشريعات، معاملات وعبادات، فتوفر الإطار الذي يتم فيه إنجازها، وتؤدي فيه غرضها، ولهذا الأمر فرضت على المسلمين الهجرة، من حين يكونون فرادى، إلى حيث يكون مجتمع إسلامي، يسهمون فيه في إقامة الدين وإجراء أحكامه، وقعودهم عن الهجرة يكون سببا في خسرانهم، لما سببه من تعطيل لإنجاز الدين، كما جاء في قوله تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) [النساء:97]. [6] [ ص: 118 ]

يصبح إذن من شروط إنجاز التعاليم الإسلامية توفر مناخ اجتماعي، يكون إطارا صالحا للإنجاز، والمقصود بالمناخ الاجتماعي الصالح، توفر حد أدنى من الترابط الاجتماعي، بين الأفراد المتعايشين في رقعة مشتركة تنظمه سلطة سياسية جامعة، ويكون بذلك ضمانا لأن يجد الحكم الشرعي عند الإنجاز سريانا في أثره الصالح، بين الجم الغفير من الناس، دون أن يموت في موطن قيامه إذا صح أن يكون له قيام. ويمكن أن نمثل لهذا المناخ الاجتماعي بترابط الجسم الحي، عبر أوعية دموية ترابطا يضمن أن ينفعل سائر الجسم، بما يجري بواسطة أي عضو من أغراض غذائية أو علاجية أو رياضية، فيكون بذلك إنجاز مخططات التنمية، والاستشفاء للجسم متوقفا في فعاليته، وتحقيق أغراضه، على ما بين الأعضاء من الترابط الظاهر والباطن، وهذا المعنى هـو الذي صوره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم مثل الجسم، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) [7]

فهو تعبير عن الترابط الاجتماعي، الذي به يؤدي تطبيق الأحكام الدينية غرضه الإصلاحي. [ ص: 119 ]

وكما يصاب الجسم بأدواء تخل بالترابط بين أعضائه، وتؤدي إلى ضياع الأغراض التي يقوم بها كل عضو؛ حيث إنها لا تنفذ إلى سائر الجسم، فكذلك يصاب المجتمع بمثل هـذه الأدواء، فتتفكك الرابطة الاجتماعية، وتتراخى الأوصال بين الناس، ولا تكون للشريعة ذات الغرض الاجتماعي فعالية تذكر في تحقيق أهدافها.

والأدواء التي تصيب المجتمع، فتقعد به عن قابلية الانصلاح بالتشاريع، أدواء متنوعة، فقد تكون الفتن والاضطرابات الناشئة عن الصراع بين الأفراد والفئات، وقد تكون انحلال السلطة السياسية الجامعة، أو ضعفها وانحرافها عن غاياتها وأهدافها. وقد تكون ضعف الشعور بالانتماء إلى الأمة، فيكون الناس ركاما تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، لا يربطهم خيط جامع من انتماء موحد لكيان الأمة، وكأنما هـو ركاب سفينة جمعتهم الأقدار، ولكل مشربه فلا يلتقي مع الآخرين إلا بالأجسام.

وكيف لمجتمع إذا أصابه داء من هـذه الأدواء، بله إذا أصابته مجتمعة، أن يتم فيه بنجاح تنفيذ خطة إصلاحية، تهدف إلى ترقية كفاءة الإنسان في الإنجاز الحضاري، هـل تنجح فيه تشريعات ثقافية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو غيرها، وكلها تتطلب التداعي بين الأفراد، والتواصل بينهم، لينفعل بعضهم ببعض، [ ص: 120 ] وليظاهر بعضهم بعضا؟! إن الشرط في إنجاز هـذه التشريعات أن تكون القنوات الاجتماعية سالكة، وأن يكون الترابط الاجتماعي قائما، وهو ما ينبغي أن يكون مطلبا أوليا، يسعى في تحقيقه حملة التشاريع، حتى يمكنهم إنجاز تشاريعهم من خلاله، فإذا ما تغاضوا عنه، وخفوا إلى الإنجاز بدونه، صادفوا أرضا بورا لا ينفذ فيها ماء، وآل ما أرادوا من إنجاز إلى الفشل.

ويصدق هـذا الأمر بصفة أخص على التشريع الإسلامي لخصوصيته الاجتماعية، فالتشريعات الإسلامية على اختلافها، لا يكون لها تطبيق مثمر، إذا ما كان المجتمع مصابا بالتدابر والانفصال، فحينئذ لا يكون للعبادات وقعها الاجتماعي، ولا يكون للمعاملات وأحكام الجنايات نفاق بين الناس، لضعف الحس الاجتماعي الدافع إلى إجراء ما فيه قوام المجتمع، أو لتراخي السلطة التنفيذية عن الإيفاء بما هـو من مهامها، من إجراء الأحكام. والمتأمل في تاريخ المجتمع الإسلامي، يجد أنه كلما تراخت الروابط الاجتماعية بالفتن الداخلية، أو بتوتر العلاقة بين الحكام والرعية، أو بغير ذلك من الأسباب، كلما تعثر إنجاز الشريعة في مختلف ميادين الحياة، إما تعطلا عن الوقوع أصلا، أو قصورا عن أداء الغرض الاجتماعي المرجو منها، وقد بين [ ص: 121 ] ابن خلدون أن فشو الظلم مؤذن بخراب العمران، [8]

والظلم هـو مظهر من مظاهر الخلل في الروابط الاجتماعية، كما أن خراب العمران يكون بتعطل أحكام الشريعة، القاضية بالسعي في الأرض، لتوفير الخير وكسب المعاش.

وبناء على ما تقدم، فإنه يكون من الفقه، الذي ينبغي أن يقوم عليه إنجاز الأحكام الدينية، النظر بعين الاعتبار للمناخ الاجتماعي، في البيئة التي يراد إنجاز تلك الأحكام فيها: وعيا بأن هـذا المناخ الاجتماعي يتوقف عليه إلى حد كبير إنجاز الشريعة، بحسب ما يتوفر فيه من ترابط، أو ما يسوده من انحلال، ثم عملا على تهيئة المجتمع بما يولد فيه قابلية الإنجاز الناجح لأحكام الدين.

وربما قيل: إن الترابط الاجتماعي بين الأفراد والفئات، وعمق الشعور بالانتماء للأمة، هـو نفسه رهين لإنجاز تعاليم دينية، وأحكام شرعية، تتعلق بالتضامن الاجتماعي، وسياسة الحكم، وأخلاق المعاشرة، فكيف إذن نطلب في فعالية إنجاز الشريعة توفير شرط هـو نفسه الأمر المشروط، وهو دور بين؟ إلا أنه بالتأمل في الأمر يتبين لنا أن تهيئة المجتمع، حتى يصبح على قابلية للانفعال [ ص: 122 ] المثمر بأحكام الشريعة، يمكن أن تتم بإجراءات تمهيدية، ليست بخارجة عن أحكام الدين، ولكنها تكون بأحكام، ذات أغراض إعدادية، تهدف إلى صنع الإطار الاجتماعي، الذي سيكون الوعاء الصالح لتنزيل الدين في أحكامه الشاملة.

وهذه الإجراءات التمهيدية، منها ما يكون إجراءات تأطيرية غرضها تكوين الهيكل الاجتماعي، المتمثل في تيسير التعايش المادي، بين أفراد المسلمين، على صعيد مكاني موحد، وفي بناء السلطة السياسية الجامعة، في مؤسساتها المختلفة، وفي تأطير الأفراد والفئات، في أطر اجتماعية، كالهيئات والجمعيات والأحزاب وما شابهها. ومنها ما يكون إجراءات تعبوية، غرضها تعميق الوعي بمفهوم الأمة، وترسيخ الشعور بالانتماء إليها، وأخذ الناس بتربية مدنية، تقوي اللحمة بينهم، وتمد قنوات التواصل، التي يتم عبرها التفاعل البناء. ولو تدبرنا السيرة النبوية، لألفيناها أحاطت بهذه الأسباب، لتكوين مجتمع المدينة: جمعا لمؤمنين، وتكوينا للمؤسسات، وأغلبها المساجد، وتقوية للحمة بالمؤاخاة، وإرساء للحياة المدنية بالمواثيق، كل ذلك تهيئة لمناخ اجتماعي تنزل في أحكام الدين، فهو فقه نبوي خالد في الإنجاز، ينبغي أن يكون معينا لكل من يدعو إلى تطبيق الدين. [ ص: 123 ]

وفي الأوضاع الراهنة للمسلمين، نلفي أوضاعا اجتماعية، ليست المجتمعات فيها بالمتماسكة المتواصلة، وليست بالمتدابرة المتفاصلة، بل هـي قائمة على شيء من هـذا، وشيء من ذاك، إنك تشهد مجتمعات إسلامية متفاصلة لا أمة موحدة، وهو وضع انعكس على الشعور بالانتماء إلى الأمة، فإذا هـو شعور مذبذب، بين انتماء للأمة الكبرى، وبين الانتماء للمجتمعات الوطنية. وتشهد سلطات سياسية قائمة في المجتمعات الوطنية، ولكن كثيرا ما تنبني هـذه السلطات على توتر بين الحاكمين والمحكومين. وتشهد تعايشا بين الناس، تحسبه في الظاهر قائما على تجانس اجتماعي، ولكن كثيرا ما تجده يخفي في حقيقته تدابرا ثقافيا، فإذا كل فريق له وجهة، شرقية أو غربية هـو موليها. وتشهد ظاهرا من اللحمة الاجتماعية، ولكنها لحمة هـشة، كثيرا ما تراها تنخرم بصراعات قبلية، أو حزبية، قد تبلغ أحيانا درجة الفتنة، التي يفتقد معها الأمن والاستقرار.

هذا الوضع الاجتماعي الراهن للأمة الإسلامية، في تردد بين مواصفات التواصل، ومواصفات التفاصل، جعل كثيرا من الدعاة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، يقفون بسبب ذلك التردد، موقفين مختلفين في كيفية ذلك التطبيق: ففريق نظر إلى المجتمع من جهة [ ص: 124 ] التواصل فنادى بالتطبيق الشامل لأحكام الشريعة، دون تحسب لما يقتضيه ذلك من إعداد اجتماعي، كشرط يتوقف عليه إنجاز التطبيق، فكان بذلك في غفلة عن فقه الإنجاز، فيما يتعلق بالتأطير الاجتماعي، وفريق نظر إليه من جهة التفاصل، فعلق كل تطبيق للشريعة غير العبادات، في انتظار أن يقوم المجتمع الإسلامي المتكامل، الذي ينجح فيه تطبيق الشريعة، وهو موقف يقوم على شيء من المثالية في التفكير الفقهي، ولذلك فإنه لا يسهم بشيء مذكور في تقدم الإنجاز الفعلي للأحكام الدينية.

ونرى أنه من الأوفق في ضوء الواقع الإسلامي الراهن، أن تراعى الوضعية الاجتماعية المزدوجة، في العمل على تنزيل الأحكام الشرعية في واقع المسلمين، فيعتمد هـذا التنزيل فقها إنجازيا، يتيح استثمار ما يبدو من مظاهر إيجابية في المجتمع، فيطبق بحسبها ما يمكن تطبيقه من أحكام الدين، باعتبارها مكسبا لشطر من المناخ الاجتماعي المطلوب لإنجاز الدين، ليس من الحكمة و إهداره دون استثمار، ويدفع في الوقت نفسه إلى عمل تأطيري وتعبوي في المجتمع: بناء للمؤسسات، واستحداثا للهيئات، وترشيدا للسلطة، وتعميقا للشعور بالانتماء للأمة، وغير ذلك مما من شأنه أن ييسر مسالك التفاعل والتنافع بين الناس، [ ص: 125 ] باعتبار ذلك كله عملا تهييئيا للمناخ الاجتماعي الصالح، لتنزيل الخطة الشرعية الكاملة المتكاملة.

وعلى هـذا الاعتبار، يفضي فقه التنزيل إلى مراعاة شرط التأطر الاجتماعي، استثمارا لما هـو حاصل منه، وعملا على استكمال ما لم يكن حاصلا، وعلى قدر ذلك تتنزل الأحكام على حياة الناس، بحسب ما يتوفر من هـذا الشرط، فتنحسر دوائر الباطل شيئا فشيئا، وتحل محلها دوائر الحق، كلما توفرت الأسباب المسعي في توفيرها، وعلى سبيل المثال، فإن الخطة الشرعية الاقتصادية مهيأ لها أن ينجز منها دون تأخير أحكام منع الاحتكار، وترشيد الاستهلاك بمنع الإسراف التبذير، وإتاحة حرية الملكية الفردية، لنماء الإنتاج، وفي الوقت نفسه، يعمل على استحداث المؤسسات والهياكل والإطارات التي تعوض بكفاءة المؤسسات الربوية، فيقع التدرج في استبدال نظام يخلو من الربا بالنظام الربوي الضارب في المعاملات بين الناس، ويعمل كذلك على تعبئة الناس لتقبل نظام يقوم على عدالة التوزيع في الثروة، يرد فيه فضل الغني على الفقير، وتكفل فيه الحاجة لجميع أفراد المجتمع، ويتاح فيه تكافؤ الفرص بين الناس، مع استحداث الطرق والمسالك الكفيلة بتحقيق ذلك، فإذا ما تهيأت الشروط [ ص: 126 ] المادية والمعنوية، نزلت الأحكام المتعلقة بهذا المبدأ، وقد غابت عن المجتمع الإسلامي زمنا طويلا صار فيه إلى الحيف، وأصبحت فيه الثروة دولة بين الأغنياء مع تفشي الحاجة في طبقات من الناس بأكملها.

وعلى الجملة، يمكن القول: إن من الفقه الضروري في إنجاز أحكام الدين، مراعاة الشروط اللازمة، لينجح ذلك الإنجاز، ويوافي أغراضه، سواء ما كان من تلك الشروط متعلقا بالتقبل النفسي وعيا واقتناعا، وما كان متعلقا بالتأطر الاجتماعي، تماسكا وترابطا ونفاذ مسالك، وقيام مؤسسات فاعلية فهذه الشروط يستثمر منها ما كان متوفرا في الوضع الراهن للمسلمين، فتنزل الأحكام المتوقفة عليها، ويعمل باستمرار على تعهدها، لتواصل قيامها، مع العمل الدائم على استكمال ما هـو غير متوفر منها، وكلما تهيأ ظرف مناسب أنجز ما يقتضيه من الأحكام، في حركة اجتهادية واعية، توفر الشروط وتنزل الأحكام، بالتدريج، حتى تأخذ الخطة الشرعية، التي وقعت صياغتها بفقه الصياغة، طريقها إلى الإنجاز، بفقه للإنجاز تعتبر مراعاة الشروط عنصرا أساسيا فيه. وإغفال هـذا العنصر المهم يفضي لا محالة إلى فشل في الإنجاز، يعود على المشروع الديني كله بضرر بالغ، إذ يضعه في [ ص: 127 ] نفوس الكثير موضع الريبة، التي تجد في الوضع الراهن للمسلمين كثيرا من المبررات.

التالي السابق


الخدمات العلمية