الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- آداب الإنجاز

نعني بالآداب: المعنى المنهجي فيها. ونريد أن نتبين فيما يلي بعض الأسس المنهجية التي ينبغي مراعاتها في إنجاز الشريعة، والتي يتكون منها فقه إنجازي، يقضي إهماله إلى حرج، قد يكون شديدا، وينتهي بالتالي إلى إعاقة الشريعة عن أن تؤدي أغراضها في الإصلاح.

وهذه الآداب تقتضيها في أكثرها - كما أشرنا إليه سابقا - طبيعة الواقع الإنساني، الذي يراد فيه الإنجاز؛ فإن واقع الحياة الإنسانية ينطوي على خفايا، قد لا يدركها الدارس، حينما يكون بصدد صياغة الأحكام في خطة واقعية، فإذا ما وضعت تلك الصياغة موضع الإنجاز ظهرت تلك الخفايا، فيكون من الفقه أخذها بعين الاعتبار، لتكون معطيات، تضاف إلى المعطيات التي كانت علمت من قبل، ويكون لها بالتالي دور في كيفية الإنجاز، بل قد يكون لها دور في تعديل الصياغة نفسها، لتكون متلائمة مع المقتضيات الحقيقة للواقع. [ ص: 128 ]

ومن هـذه الآداب ما هـو قواعد عامة، تتعلق بالإنجاز في الظروف كلها، فتراعى منهجا في إجراء الأحكام، ينبني على ما هـو ثابت من العناصر في حياة الإنسان الواقعية، ومنها ما هـو قواعد تتعلق بكل وضع بحسب خصوصياته الذاتية، ومعطياته الشخصية، ومن مجمل هـذه القواعد يتكون فقه في الإنجاز، بعضه فقه عام، وبعضه فقه خاص، ونورد فيما يلي جملة من هـذه الآداب، نذكرها عامة، ثم نحاول أن نوجهها توجيها خاصا، على حسب معطيات الواقع الراهن للحياة الإسلامية.

( أ ) المرحلية والتدرج قد يأتي على المسلمين وضع في حياتهم يكون فيه للباطل صولة عليهم، فيتعطل العمل بكثير من الأحكام الدينية، وتغشى الجاهلية الكثير من أحوال التعامل بينهم، وقد يكونون على سمت من الدين، ولكن أوضاعا من حياتهم طالها تغيير عريض، اقتضى أن يعالج بصياغة دينية جديدة، تحافظ على السمت الديني في التوجه الجديد، وقد يهتدي إنسان، أو مجموعة من الناس إلى الإسلام، فيقتضي ذلك أن ينسلخوا من حياة إلى حياة، ويتحولوا من أسلوب إلى أسلوب. [ ص: 129 ]

في هـذه الحالات كلها يكون حجم التغيير المطلوب في أسلوب الحياة حجما كبيرا، ترفع فيه قيم وأحكام جاهلية، وتنزل أحكام دينية تهدي الحياة سواء السبيل، ومن الفقه الصالح لنجاح هـذا التغيير أن يتم التحول من الباطل إلى الحق على مراحل متدرجة، فيتم الانسلاخ من الأوضاع المعهودة شيئا فشيئا، وتتنزل الأحكام الدينية لتوجيه الأوضاع الجديدة شيئا فشيئا، وذلك ضمن خطة محسوبة، تتدرج مراحلها، بما يضمن متابا صادقا عما يقع الانسلاخ منه من أحكام الباطل، وإقبالا راسخا على ما يقع الانخراط فيه من أحكام الدين.

وقد كانت هـذه المرحلية المتدرجة في تنزيل أحكام الدين سنة نبوية، في التبشير بالإسلام، حيث كانت الأحكام التعبدية والأحكام المنظمة للحياة تنزل في الوحي منجمة، ويربى عليها المسلمون منجمة كذلك، وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما خلصت الحياة بالتدرج من الجاهلية إلى الرشد، وأنجزت أحكام الدين في واقع الحياة، وكما كان التدرج في تنزيل الأحكام كميا بتواليها أحكاما بعد أخرى، فقد كان كيفيا أيضا بتصاعد الحكم الواحد من الأخف إلى الأشد في التكليف إيجابا وتحريما كما هـو معلوم في إيجاب الصلاة وتحريم الخمر. [ ص: 130 ]

وإذا كان هـذا التدرج في إنجاز الأحكام، رافق نزول الدين ابتداء لتحويل الجاهلية الجهلاء إلى اهتداء مبين، فإن فيه تعليما للمسلمين ليقتبسوا منه فقها في الإنجاز، كلما وجدوا أنفسهم في وضع فيه شبه وإن يكن قريبا من ذلك الوضع، الذي نزل فيه الدين، من حيث يتوجب عليهم مغادرة وضع باطل، إلى وضع صحيح، يهتدي بأحكام الشريعة، ففي ذلك الفقه صلاح دائم، في تسهيل النقلة من الضلال إلى الهدى، وفي التثبيت على الهدى، بعد النقلة إليه، وهو غرض دائم من أغراض الدين، فالفقه الموصل إليه دائم مثله.

وليست وجوه الحكمة في التدرج بخافية، بل هـي جلية ظاهرة، سواء في مبدأ نزول الدين، أو في الأوضاع المشابهة، التي قد تطرأ على المسلمين في كل زمان، ومن تلك الوجوه رفع الحرج، الذي يكون بالانتقال الفاجائي من حال إلى حال، فإن للإلف والعادة تمكنا في النفس، يصعب معها الانقلاب منها إلى ما يضادها مرة واحدة، ويكون في انتزاعها شيئا فشيئا، ما يسهل الخروج منها كليا إلى وضع جديد، ومنها أن في التدرج تمرسا وخبرة بما يقع إنجازه، يساعد كثيرا على إنجاح ما ينتظر أن ينجز، فيكون في التوالي اكتسابا لحكمة تطبيقية، تفيد أيما إفادة في إنضاج التطبيق في الأحكام، لتبلغ أقصى آمادها في الإصلاح، ومنها أن ظهور الآثار [ ص: 131 ] النافعة لتطبيق بعض الأحكام يدعو إلى الانخراط في خطة الإصلاح الشاملة، فتكون مسيرة الإنجاز المتتابع مجلبة للمهتدين باطرد، وبذلك يعم النفع، وهو غاية الدين.

والمتأمل في الوضع الراهن للمسلمين اليوم، يجد أن إنجاز أحكام الدين، يحتاج إلى فقه، يقوم على التدرج، كأشد ما تكون الحاجة، ويتبين أن الحكمة، التي انطوى عليها هـذا الفقه، لها مصداق بين في معالجة هـذا الواقع الراهن، فقد تقدم لنا سابقا أن أوضاع المسلمين اليوم تجري في أبواب المعاملات بين الناس على غير أحكام الشريعة في كثير منها، وهي متأثرة في السياسة والاقتصاد والثقافة بالقوانين الغربية، وكذلك الأمر في أحكام الجنايات والأحوال الشخصية، وليس هـذا الباطل مستحكما على مستوى السلوك فحسب، بل هـو مستحكم أيضا على مستوى التنظير المذهبي، متمثل في العلمانية ، التي تفصل الدين عن شئون الحياة، وتجعله شأنا فرديا من شئون الفرد، إنه وضع فيه شبه من الجاهلية الأولى، إذا نظرنا إلى الجانب العملي من حياة المسلمين، لولا أن الأمة خالصة في جملتها من عقيدة الجاهلية، منطوية على قدر كبير من الإيمان المستور المؤمل في انصلاح قريب. [ ص: 132 ]

هـذا الوضع الذي تمكنت فيه أحكام الباطل في كثير من نواحي حياة الإنسان يحتاج علاجه إلى عمل تدرجي، في إحلال الأحكام الشرعية محل الانحرافات السائدة، فبعد صياغة الخطة الشرعية بحسب مقتضيات الواقع يكون تنفيذ هـذه الخطة على مراحل متدرجة ينبني بعضها على بعض، فكلما استقر منها قسط في أعمال الناس، واستقامت به الحياة في تلك الأعمال، ينزل قسط آخر، وهكذا حتى تنجز الخطة كاملة فستقيم بها الحياة بالتدريج.

ولهذا التدرج صور متعددة، تتحدد في كل بيئة بحسب معطياتها الواقعية، فربما كان بحسب مجالات الحياة، كأن تطبق أحكام الشريعة في مجال الأسرة، ثم في مجال القوانين الاجتماعية، ثم في مجال المعاملات الاقتصادية، وهكذا تنجز الشريعة في مجال بعد آخر، مع مراعاة ما هـو ممهد لغيره فيقدم عليه، وربما كان التدرج في نطاق المجال الواحد، كأن يعمد مثلا إلى المجال الاقتصادي فيبدأ بتطبيق بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنتاج ووسائله، ثم يصار منها إلى تطبيق أحكام أخرى متعلقة بتوزيع الثروة ومسالكها، وهكذا حتى ينتظم هـذا القطاع على أحكام الشرع بالتدرج، الذي تقتضيه طبيعة الأركان الاقتصادية، وطبيعة علاقاتها ببعضها، ويقع مثل ذلك في سائر القطاعات الأخرى على [ ص: 133 ] هـيئة متوازية، يتنامى فيها تطبيق الشريعة أفقيا بما يخدم بعضه بعضا في مسيرة هـدفها بلوغ الاكتمال في انخراط سائر وجوه الحياة ضمن الخطة الشرعية.

ويحتاج إحكام هـذا التدرج، إلى فقه عميق بالعلوم الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية، ليكون ترتيب المراحل في إنجاز أحكام الشريعة مبنيا على الحكمة في تداعي الانصلاح، مرحلة بعد مرحلة دون أن يجد الانتكاس مدخلا في ذلك الترتيب، بتقديم ما يجب أن يتأخر، وتأخير ما يجب أن يتقدم، كما يحتاج إلى فقه عميق بالمعطيات الواقعية لكل بيئة من البيئات الإسلامية، حتى تترتب المراحل بحسب تلك المعطيات، التي قد تنطوي على عناصر شخصية مختلفة، تستدعى اختلافا في الترتيب المتدرج بينها، فرب بيئة استفحل فيها الإخلال بالشريعة في مجال الأسرة، أكثر من أي مجال آخر، ورب بيئة أخرى حافظت فيها الأسرة على أحكام الشرع، ولكنها شهدت فسادا في قوانين التعامل الاجتماعي، فيكون التدرج في تطبيق الشريعة مختلفا بين هـذه وتلك، بحسب اختلاف الأحوال.

وكثير من الدعاة إلى تنزيل الشريعة الإسلامية في واقع اليوم تراهم يعارضون أسلوب التدرج في التنزيل، ويدعون إلى تطبيق [ ص: 134 ] شامل ومكتمل للأحكام الدينية، في جميع مجالات الحياة، ويرون أن التدرج الذي كان في مبدأ نزول الدين يبرره النقلة الصعبة من جاهلية مطبقة إلى دين جديد مناقض لها، أما وقد انتشر الدين وعم عبر قرون، فإن الانحراف الذي آل إليه وضع الأمة لا يبرر معالجته بالتدرج، لسابقية سيادة أحكام الدين في حياتها، فتطبيق أحكام الشريعة هـو عملية تصحيح لا مبرر فيه للتدرج، ثم أنهم يرون أن من المحرج شديد الحرج أن تشتمل خطة الإصلاح على العمل بتطبيق بعض الأحكام، وترك بعض المجالات تجري على باطلها بقصد إلى ذلك، فهو يشبه أن يكون إقرارا لذلك الباطل، ولو لمرحلة زمنية معينة؛ ولذلك فإنهم يرفضون أن تنزل الشريعة أبعاضا، ويهدرون كل فرصة تسنح في ذلك، مترقبين الظرف الملائم لتنزيلها جملة، وتحقيق الدين في حياة المسلمين كاملا غير منقوص.

والحقيقة أن هـذا الموقف محكوم بنظرة مثالية، يغذيها حب الإسلام أن يرى قيما على الحياة كلها، وهو بذلك يفتقر إلى أدب الواقعية، الذي يعتمد الأسباب، ويستثمر ما هـو متاح في سبيل التقوي به لتذليل ما ليس متاحا ليصبح متاحا فيستثمر أيضا، حتى يتم البلوغ إلى الهدف النهائي في مغالبة للواقع، وترشيد له بشرع الله شيئا فشيئا. [ ص: 135 ]

وواقع المسلمين اليوم واقع بلغ من التعقيد درجة لا يجدي معها إلا المعالجة المتأنية المتدرجة، التي تمهد كل درجة منها إلى ما بعدها، فتترشد وجوه الحياة تباعا، بما ينجز فيها من أحكام الشرع إنجازا مرحليا، وليست العوائق السياسية المتمثلة في أن كثيرا من القيمين على حظوظ الحكم في العالم الإسلامي لا يؤمنون بسيادة الشريعة في قطاعات عريضة من الحياة، ليست هـذه العوائق هـي الحائل الوحيد، دون التنزيل الكامل للدين على شعاب الحياة كلها كما يظن بعض الدعاة، وأنه لو أزيل هـذا العائق بوجه من الوجوه، تم الفتح الأكبر، وانخرطت حياة المسلمين جملة في خطة الشريعة، بل إن ثمة عوائق غير ذلك تكمن في ذات الواقع النفسي والاجتماعي والثقافي للمسلمين، تراكمت عبر تاريخ الانحطاط، وعبر مضاعفات الانهزام الحضاري للحضارة السائدة.

كيف يمكن أن تنجز أحكام الحدود في مجتمع إسلامي لا تكفى فيه حاجات الناس الضرورية، بل تعيش فيه طبقات كثيرة في فقر مدقع، يصل درجة المجاعة أو ما يشبه المجاعة، وفي مجتمع إسلامي استشرى فيه التبرج والاختلاط الفظيع، حتى باتت غواية الشيطان تراود ذوي الأحلام من الناس؟ وكيف يمكن أن تنجز أحكام العدالة في توزيع الثروة في مجتمع إسلامي ليس فيه من [ ص: 136 ] الإنتاج ما يدعو إلى التوزيع أصلا؟ إن هـذه الأمثلة وغيرها كثير تقوم مبررا حقيقيا، لأن تقدم في الإنجاز تلك الأحكام الدينية التي تعتبر أسبابا ومقدمات، وأن تؤخر إلى مرحلة ثانية تلك الأحكام التي تعتبر نتائج ومسببات، فتنمو بذلك مسيرة الإسلام في المجتمع قدما، منهجها" بدلا من أن تنتظر الفتح الأكبر، الذي يقوم فيه المجتمع كله بالإسلام، أن تحاول في جوانب الحياة المختلفة أن تقيم نماذج جزئية في جانب من الاقتصاد، وفي جانب من السياسة، وفي جانب من الفكرة، وفي جانب من المجتمع". [1]

وليس في ذلك إقرار للباطل، الذي يؤخر العمل على دحضه بتأجيل إنجاز الشريعة فيه، ولكنه فقه في الإنجاز تعلم به مسيرة الإسلام "أنه لبلوغ الكل لا بد من البدء بالجزء، فهي لا تؤمن ببعض وتكفر ببعض، بل تؤمن بالإسلام كله، ولكنها تحاول أن تطبق منه ما تيسر، ولا تقدر أنه لا بد من انتظار مرحلة الدولة حتى يتمكن الدين بكل جوانبه ". [2]

ومن المهم أن نلاحظ أن التدرج الذي تحدثنا عنه فقها في الإنجاز إنما هـو التدرج الكمي، الذي تقدم فيه بالتطبيق بعض [ ص: 137 ] الأحكام وتؤخر أخرى، إلى أجل لاحق، وليس هـو التدرج الكيفي الذي ينمو فيه الإيجاب والمنع، من الأخف إلى الأشد، كما كان في مبدأ نزول الدين. فذلك إنما كان خاصا بتلك المرحلة، أما وقد اكتملت أحكام الدين في صورتها النهائية فلا مجال للتصرف في كيفياتها من قبل الإنسان بالزيادة والنقصان، وإنما هـو إنجاز للحكم مكتملا حينما يحقق الإنجاز مقصده، أو تأخير لإنجازه مكتملا حينما تدعو الضرورة لتأخيره.

( ب ) التأجيل والاستثناء إن قاعدة المرحلية والتدرج، التي تحدثنا عنها آنفا، تشبه أن تكون قاعدة للتحولات الكبرى في الأمة الإسلامية، من وضع تضرب فيه الجهالة، إلى وضع تسود فيه الهداية، ونحسب أن الوضع الراهن للمسلمين هـو وضع يتحفز إلى واحد من تلك التحولات الكبرى، فيما يشهده العالم الإسلامي من صحوة إسلامية، وإذا كانت قاعدة التدرج تنطوي على ضرب من التأجيل في تطبيق بعض الأحكام، التي ترجأ إلى مراحل لاحقة، فإننا التأجيل في هـذه القاعدة من قواعد فقه الإنجاز، كقاعدة مستقلة بذاتها، لا تقتصر صلاحيتها على ترتيب المراحل عند التحولات [ ص: 138 ] الكبرى، بل تتجاوز ذلك لتكون صالحة في تنزيل الأحكام الشرعية في الأحوال كلها، وتلحق بها قادة الاستثناء لمشابهتها إياها وشدة صلتها بها.

والمقصود بالتأجيل، هـو العدول عن تطبيق الحكم الشرعي في ظرف معين، وإسقاط العمل به في ذلك الظرف، حتى يحين ظرف آخر مناسب، يعاد فيه ذلك الحكم إلى التطبيق، والمقصود بالاستثناء إسقاط تطبيق الحكم الشرعي في حق عينة من عينات الأفراد أو الحالات، في حين يطبق على سائر العينات الأخرى المشابهة لها.

وكل من التأجيل والاستثناء قاعدة فقهية في تطبيق الشريعة، يؤدي التغافل عنها عند إجراء الأحكام على واقع الحياة إلى حرج شديد، قد يذهب بالمقصد، الذي من أجله وضعت تلك الأحكام، وقد ذكرنا سابقا أن الأحكام الدينية وضعت كلية عامة، كما ذكرنا أن الصياغة التي توضع بحسب واقع معين تنبني على المعطيات العامة لذلك الواقع، ولذلك فإنه عند تطبيق الأحكام على مشخصات الأفراد والحالات، قد يتبين أن حكما ما لا تتوفر في مشخصات الأفراد، أو الحالات أو الشروط، التي تجعل تطبيقه مؤديا لغرضه، فيؤجل تطبيقه إلى حين آخر، تتوفر فيه تلك [ ص: 139 ] الشروط، كما قد يتبين أن حكما ما إذا ما طبق على فرد معين أو حالة معينة، قد يفضي تطبيقه إلى مفسدة، من حيث وضع ليحقق مصلحة، وذلك باعتبار خصوصية في ذات الفرد أو الحالة انفردت بها، دون سائر الأفراد والحالات، فيسقط إذن تطبيقه، وتستثنى تلك العينة من هـذا الحكم الموضوع ليطبق على نوعها.

وبهذا الاعتبار يكون المبرر الأساسي للتأجيل والاستثناء هـو وجود موانع فيما يراد أن يطبق عليه الحكم، تجعل تطبيق الحكم عليه لا يؤدي مقصود الشارع من وضعه، بل قد يؤدي ذلك التطبيق إلى ما يناقض المصلحة المقصودة، وهذا الفقه هـو الذي اعتمده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأجيل تطبيق حكم الحد في السرقة عام المجاعة، وتأجيل حصة المؤلفة قلوبهم لما عز الإسلام، وقوي المسلمون، فقد رأى أن إجراء هـذين الحكمين في هـذين الظرفين لا يؤدي المقصود منهما؛ إذ المجاعة شبهة في الإلجاء إلى السرقة، فيكون في الحد حرج وحيف، والمؤلفة قلوبهم انتفت فيهم صفة التأليف لعزة الإسلام، ولذلك أجل إنجاز الحكمين إلى حين تزول هـذه الأسباب المانعة من حصول المقصود من إنجازها، كما اعتمد عمر هـذا الفقه أيضا في منع توزيع أرض العراق على الجنود الفاتحين، فقد استثنى هـذه الأرض، من أن [ ص: 140 ] يجري عليها الحكم الشرعي في تقسيم الفيء ، على مستحقيه ومنهم الجند، من بين الأموال الأخرى، لما رأى من أن ذلك يؤدي إلى حرج عظيم يصيب الأمة في مستقبلها، حينما يتقاسم الأرض الواسعة عدد محدود من الناس، فأسقط إنجاز الحكم الشرعي في هـذه الحالة. [3]

إن هـذا الفقه القائم على التأجيل والاستثناء في الإنجاز، فقه ضروري لضمان تحقيق المقاصد الشرعية من تطبيق الأحكام في واقع الحياة، حيث يجري هـذا الواقع في بعض وقائعه، بما يخالف النسق العام، الذي تجري عليه سائر الوقائع، متأبيا على التقنين المجرد الصارم، الذي ينتهجه العقل في تقرير الأحكام من مصادرها، فيكون هـذا الفقه راصدا للوقائع العينية، من حيث ما يكون فيها من الموانع الحائلة دون تحقيق المصلحة من إجراء الأحكام عليها، فيئول بها إلى التأجيل، أو الاستثناء في ذلك الإجراء. وهذا ما بينه ابن رشد في شرحه للاستحسان، الذي هـو قاعدة أساسية من قواعد التأجيل والاستثناء حيث يقول: "الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس، هـو أن يكون طرحا للقياس، يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه في بعض المواضع، لمعنى يؤثر [ ص: 141 ] في الحكم، يختص به ذلك الموضع". [4]

فهذا القول يشير إلى أن الاستحسان هـو حجب لإجراء الحكم على بعض المواضع، منعا لحرج ينشأ عن ذلك الإجراء، إذا ما وقع بحسب التقنين المجرد.

وتحدث الخصوصيات في الواقع والأحوال من حياة الأمة أكثر ما تحدث حينما تمر هـذه الحياة بمراحل توتر، ينخرم فيها النسق المألوف في النظام الاجتماعي والثقافي، ويتمزق فيها التجانس بين التصرفات بمقتضى الوحدات الثقافية والاجتماعية، فتكثر لذلك شواذ العينات في الطبيعة الفكرية والنفسية للأفراد، وفي الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويبدو في المجتمع الإسلامي تفاوت كيفي في كثير من أفراده، من الناس ومن الأحداث، وحينئذ فإن إجراء أحكام الشريعة في شعاب الحياة المختلفة يصبح أحوج ما يكون إلى قاعدة التأجيل والاستثناء في أدب الإنجاز حيث يكون ذلك التفاوت الكيفي بسبب شذوذ بعض العينات مانعا من أن يطرد فيها حصول المصلحة، إذا ما أجريت عليها الأحكام، كما تجري على سائر العينات، والأمثلة المأثورة من فقه الصحابة وتابعيهم في هـذا الباب أغلبها تصف تأجيل واستثناءات في زمن من أزمان التوتر، مثل زمن [ ص: 142 ] المجاعة، الذي أجل فيه حد السرقة، وزمن الحرب جهادا حيث تسقط الحدود.

ولا شك أن الظرف الراهن الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم هـو ظرف تصاب فيه حياتها بتوتر شديد على مستويات مختلفة، نتيجة للوضع الحضاري الذي آلت إليه بعد اضمحلال حضارتها الإسلامية، وسقوطها في عهود من الانحطاط، فحينما هـمت بالنهوض حاضرا، تفرقت بها السبل، وتعددت النماذج المحتذاة، واختلفت إيديولوجية النهضة المبتغاة، فإذا بها على ما نراه اليوم في تشتت ثقافي، وتناقض اجتماعي، واضطراب في سبل العيش وأنماطه، وهو ما أجدى إلى تفاوت كبير بين الناس والوقائع والأحوال، في الطبائع والأنماط والأسباب، ولكي يعالج هـذا الوضع بخطة شرعية شاملة توحد المشارب، وتسلك الحياة كلها في سلك الدين، لا بد من التدرج في المعالجة، تدرجا يقتضي التأجيل في إنجاز بعض الأحكام، والاستثناء في بعض العينات، قصدا في ذلك إلى الترقي بحياة المسلمين، ترقيا متأنيا ثابتا، لتكون معتصمة بالدين على قدر موحد مطرد.

وربما وقع الظن بأن التأجيل والاستثناء مظهر من مظاهر التعطيل للأحكام الإلهية، قد يكون مدخلا خطيرا لإهدار تدريجي للدين أصلا، إلا أن هـذا الظن لا يصبح له مبرر، حينما تمارس هـذه القاعدة في الإنجاز بوعي فقهي يرافقه الإخلاص، بل تكون قاعدة مساعدة على إقامة الدين، ضامنة لأن يؤدي أغراضه في غير حرج، فهي إذن [ ص: 143 ] إذا استعملت بحقها أدت إلى سيادة الدين لا إلى تعطيله.

وقد كان هـذا الظن سببا في مطالبة بعض الدعاة بالتطبيق الآلي لأحكام الشريعة، بحيث تجري الأحكام في جميع مظاهر الحياة، دون نظر إلى خصوصيات بعض الحالات والوضاع من جهة التوتر، الذي يغشى حياة المسلمين، وآثاره في تلك الحالات والأوضاع، ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية في واقع المسلمين اليوم تطبيقا آليا، دون مراعاة شروط التطبيق، والعمل على توفيرها أولا، لأصاب كثيرا من المسلمين حرج عظيم بسبب هـذا التطبيق الآلي، سواء كان ذلك في أحكام الحدود، أو في كثير غيرها من الأحكام، وبهذا تكون الغفلة عن التأجيل والاستثناء حتى تستكمل الشروط الضرورية، والدعوة إلى التطبيق الآلي، مما قد يفضي إلى نكسة في الدعوة الدينية أصلا زيادة عما يسببه ذلك من الحرج. [5]

وفي مقابل هـذا الموقف المطالب للتطبيق الآلي للشريعة الإسلامية، نشأ موقف آخر مناقض له، نحسبه هـو أيضا موقفا فادح الخطأ بسبب من الغفلة عن قاعدة التأجيل والاستثناء، وقد كان منطلق هـذا الموقف من تحليل الواقع الذي يعيشه المسلمون في المجالات المختلفة، إذ تبين لبعض الناس [6]

أن بعض هـذه المجالات في عينات منها خاصة، تحمل من التعقيدات الناشئة بسبب تبدل الزمان، وتغير الأوضاع، [ ص: 144 ] ما يبرر سقوط الأحكام الشرعية، في شأنها على وجه الإلغاء الدائم، وجعلوا يقيمون على ذلك الحجج، التي من أهمها أن الأحكام الشرعية كانت مرتبطة بالأحوال والأحداث التي نزلت بشأنها أول عهد الإسلام، أما الآن فإن الظروف والأحوال تغيرت، والمبررات الزمنية للأحكام زالت، ولذلك فإنها أحكام انقضت بانقضاء أسبابها، ولم يبق لها سلطان على أوضاع المسلمين في هـذا العهد وبعده. [7]

وبقطع النظر عن الخلفية الانهزامية التي نشأ عنها هـذا الموقف، حيث كانت للواقع المثقل بنظم وتقاليد غريبة عن الإسلام سطوة قاهرة على نفوس أصحاب هـذه الوجهة، فإن ما وجدوه من مفارقة بين بعض أحكام الشريعة، وبين بعض عينات الواقع، مما يبدو على وجه الحق أن تطبيقها عليها قد يفضي إلى حرج كبير، فإن ما وجدوه من ذلك تتسع قاعدة التأجيل والاستثناء لحله، عوضا عن السقوط في موقف الإلغاء للأحكام الإلهية الثابتة، فحينما تختل شروط التطبيق في ظروف ما مما يعطل مقاصده إذا ما أوقع، يكون في تأجيله إلى حيث تحقيق تلك الشروط مندوحة عن القول بالإلغاء. [ ص: 145 ]

وبهذا يتبين أن القصور عن فقه الإنجاز فيما يتعلق بقاعدة التأجيل والاستثناء، يفضي إلى تطرف في التطبيق الآلي، وما يسببه من حرج، أو إلى تطرف يتمثل في الإلغاء، وما يؤدي إليه من هـدم الشريعة. [8]

(ج) جماعية الإنجاز إن الطابع الاجتماعي للدين الإسلامي يجعل المسؤولية في تطبيق أحكامه مسؤولية جماعية، في أغلب تلك الأحكام. وإذا استثنينا بعض الواجبات التعبدية، التي يتحمل المسلم مسئوليته فردية في أدائها، فإننا نلفي سائر الأحكام الأخرى، لا يتم إنجازها على الوجه المطلوب إلا بمسؤولية جماعية من قبل عموم الأمة، أو من قبل المجموعات المختلفة من الأمة. ولنا أن نتصور ما يصيب الدين من تعطيل، لو تخلت مجموعة الأمة عن إنجاز الفروض الكفائية، التي تنتظم أكثر ما تقوم به الحياة، في المجال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

وقد شرع في الإسلام مبدآن أساسيان لضمان هـذه المسؤولية الجماعية في تطبيق الأحكام الدينية: مبدأ الخلافة التي هـي جمع بين الدين والدولة، على معنى أنها سلطان سياسي غايته تطبيق الشريعة في [ ص: 146 ] حياة الناس، كما عرفها ابن خلدون بقوله: "الخلافة هـي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا". [9]

وبما أن الخلافة مظهر للإرادة الجماعية للأمة، إذ هـي إنابة من قبلها بالاختيار الحر، فإنها تمثل بذلك المسئولية الجماعية على تطبيق الأحكام الشرعية.

والثاني مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي نيط بعهدة مجموع الأمة كما جاء في قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) [آل عمران: 104] وهي مسئولية مباشرة للجماعة الإسلامية، في إنجاز التشاريع الإسلامية، تكمل سلطان الخلافة في إنفاذ ما يتعلق بها من المهام التطبيقية، وليست أية واحدة من هـاتين المسئوليتين للأمة: المباشرة بطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير المباشرة بطريق سلطان الخلافة، بكافية عن الأخرى في إنجاز الأحكام الدينية، وإنما هـما متكاملتان في أداء هـذه المهمة توزعا لهذه الأحكام بحسب طبيعتها.

وإذا كانت الخلافة هـي حمل الكافة، على مقتضى النظر الشرعي، [ ص: 147 ] كما جاء في تعريف ابن خلدون ، فإن دولة الخلافة الإسلامية كانت في الواقع تشرف إشرافا عاما على تطبيق الشريعة في الأمة، من خلال وظائف محدودة، سماها ابن خلدون بالخطط الدينية الشرعية وحصرها في: الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة. [10]

وهذا ما أفسح المال للأمة كي تشرف بذاتها على كثير من المهام التفصيلية، تتحمل فيها إنجاز الشريعة، في مجالات مختلفة، عبر مؤسسات شعبية تلقائية، أو عبر مؤسسات اجتماعية علمية، وكثيرا ما كان العلماء يقومون بدور المحرك الأساسي، في إنجاز هـذه الأعمال، التي تقوم بها الأمة، والتي منها التعليم والتربية، وقد تمتد إلى الإفتاء والتنظيم الاقتصادي، وغيرها من المجالات، حينما تخف سلطة الدولة، أو حينما تتسع الفجوة بين الأمة وبين السلطان الحاكم. ففي هـذه الظروف تضطلع الأمة بالإنجاز الجماعي لأحكام الشريعة في أغلب ميادين الحياة.

يمكن القول إذا: إن الأمة الإسلامية عبر تاريخها كانت تمارس صلاحية شعبية جماعية، في الإشراف على إنجاز الأحكام الشرعية، في كثير من ميادين الحياة، وإنها لم تكن تعتمد على الدولة إلا في ما هـو مظهر للسيادة الجامعة، وقد كان لهذه الجماعية الشعبية في الإنجاز رغم تلقائيتها وبساطة مؤسساتها أثرها الإيجابي في المحافظة على سريان [ ص: 148 ] الشريعة في حياة المجتمع، وهو ما يفسر لنا ضعف التأثير السلبي، لفساد بعض الحكام السلاطين، في العمق الشعبي للأمة، فكثيرا ما رأينا عصورا اتصفت بالاضطراب السياسي، والتوتر في الحكم انحرافا وطغيانا، ولكن أحوال الأمة الثقافية العلمية، والاقتصادية والحضارية عامة، تكون في ازدهار؛ وفق خط الشريعة بصفة عامة، [11]

وليس ذلك إلا لأن المسئولية الجماعية للأمة تقوم بدور إيجابي في تدبير الأمور وفق أحكام الدين.

ولكن هـذا الوضع اختلف كثيرا في الدولة الحديثة، فهذه الدول أحكمت سيطرتها على مجالات الحياة العامة كلها، فتقلصت المهام التي كانت تقوم بها الأمة إلى حد كبير، وبمرور الزمن نشأت في عموم المسلمين صفة من الاتكال على الدولة، وانسحبوا انسحابا يكاد أن يكون كاملا من العمل الجماعي الشعبي، معتقدين أن كل شيء يهم الحياة الاجتماعية، هـو من مشمولات الدولة وحدها، وهي المطالبة بإنجازه.

ولما كانت الدولة الحديثة متأثرة في كثير من مناطق العالم الإسلامي بالدولة الغربية في انبنائها على العلمانية ، الفاصلة بين الدين والدولة، فإن ما نشأ عن ذلك من تقصير الدولة في رعاية الشريعة [ ص: 149 ] الإسلامية، بالإنجاز في كثير من مجالات الحياة، أوقع في النفوس أن التقصير في إنجاز الشريعة جملة هـو من مسئولية الدولة وحدها، وظل كثير من الأفراد والجماعات ينتقصون من مسئولياتهم الفردية والجماعية في تطبيق الشريعة، فيما هـو منوط بعهدتهم من الأحكام، ظانين أن الدولة لو تبنت القيام على إنجاز الشريعة لتم ذلك الإنجاز دفعة واحدة، ولأصبح المجتمع كله على صراط الدين المستقيم طرفة عين.

والحقيقة أن إنجاز الشريعة في الحياة الاجتماعية، لا يتم إلا بمجهود جماعي، تقوم فيه الأمة بدور هـام، كما كانت تقوم به في السابق، وإذا كانت الدولة الحديثة مسيطرة على مساحة أوسع بكثير مما كانت تسطير عليه الدولة الإسلامية القديمة، فإن الأمة قد أتيحت لها اليوم وسائل للعمل الإنجازي، لم تكن متاحة لها بالأمس، وهو ما يمكنها من القيام بدورها الهام، في إنجاز خطة الشريعة إنجازا جمعيا مثمرا.

لقد أتيحت في العصر الحديث أشكال من التنظيمات الشعبية، لم تكن متاحة من قبل، مثل الأحزاب والجمعيات والهيئات، والمؤسسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وإذا كان في بعض البلاد الإسلامي يصعب قيام مثل هـذه المؤسسات الشعبية لعوائق ترجع إلى سطوة الدولة وتعسفها في المنع، فإنها متاحة في بعض البلاد الأخرى على أقدار مختلفة. [ ص: 150 ]

وتمثل هـذه المؤسسات الشعبية وسيلة هـامة للنهوض بإنجاز جماعي للأحكام الشرعية في مختلف المجالات، حيث يمكن أن تتبنى كل مؤسسة خطة شرعية في مجال تخصصها، وتتحرك بإنجازه في الواقع، لتصنع منه أنموذجا "حيا " لتطبيق الإسلام في واقع الحياة، فيكون في ذلك الإنجاز تجربة تثري الفقه التطبيقي، بما يتوافر من خبرة التطبيق في قطاعات مختلفة، كما يضرب المثال لتطبيق الدين بما يفسر عنه من مصالح، يقف الناس عليها عيانا، فيكون مركز استقطاب للمزيد من المؤمنين بالشريعة الإسلامية، والعاملين على تنزيلها في الواقع، وشيئا فشيئا تمهد هـذه المؤسسات الشعبية بما تنجز من دين، لتطبيق شامل في المجتمع بأكمله، حينما يصبح الإسلام هـو شرعة المجتمع كله، فتكون هـذه النماذج خير ما يعين حركة الإسلام، وفكر الإسلام، على أن يستوعب حركة المجتمع بأكمله، بتوسيع النماذج وتطبيقها. [12]

وإن ثمة بعض الدعاة المعاصرين يعتبرون هـذا العمل الجماعي الشعبي عملا ترقيعيا، لا يغني من التطبيق الشامل للإسلام شيئا، ولذلك فإنك تراهم يظلون ينادون بالمثل الأعلى للإسلام، الذي لا يتنزل على الواقع تنزلا حقا، إلا حين قيام الدولة الإسلامية الكاملة، التي يتنزل بها الدين على واقع المجتمع مرة واحدة، وأما في غياب هـذا الظرف الضروري لتنزيل الدين كاملا، فلا يعدو التدين عند هـؤلاء الدعاة أن يتجاوز الالتزام الفردي بالفرائض التعبدية، أو ما قاربها من الالتزامات الأسرية، أو الأخلاق الإسلامية العامة، [ ص: 151 ] أما سائر التعاليم الشرعية، ذات الصبغة الاجتماعية، فإنها لا تنجز في الواقع إلا بقيام الدولة الإسلامية الكاملة.

والمتأمل في هـذه الوجهة في إنجاز الشريعة يجدها تفتقر إلى فقه ناضج في الإنجاز؛ ذلك لأن مشكلة إنجاز الشريعة في الواقع ليست مشكلة دولة فحسب، بل هـي أيضا وبقدر كبير مشكلة أمة، فإذا لم تكن الأمة متمثلة اليوم في المنظمات والهيئات والمؤسسات واعية بتنزيل الشريعة، ومتبنية له، حتى يكون لها هـما يوميا، تمارسه بالتدرج، وتنتقل فيه شيئا فشيئا، من حياة جاهلية في كثير من جوانبها إلى حياة اجتماعية إسلامية، إذا لم يكن ذلك، فإن الدولة التي تتبنى الإسلام كاملا قد تبوء بالفشل، إذا ما أتيح لها التنزيل الفوقي لأحكام الدين، حينما لا تكون الأمة مهيأة لذلك.

إن الوعي الجماعي إذا بإنجاز الدين، وصياغة ذلك الوعي في مؤسسات شعبية، بحسب ما هـو متاح ضمن الظروف القائمة، ثم تبني تلك المؤسسات للخطة الشرعية في مختلف شعاب الحياة، والعمل على إنجازها، إن ذلك يعتبر في الظرف الراهن للمسلمين قاعدة هـامة في فقه الإنجاز، فهذه المؤسسات الشعبية الاجتماعية، التي لم تكن معروفة في المجتمع الإسلامي القديم، أصبح لها اليوم [ ص: 152 ] دور هـام في دفع الحياة الاجتماعية، وفي صياغة نمطها، وهي إذا كانت اليوم في العالم الإسلامي غير مطردة ولا هـي في مرحلة متقدمة من النضج، لأسباب بعضها سياسي، وبعضها ثقافي علمي، إلا أنها تنمو بمرور الزمن نحو التمكن والنضج، مما يهيئها لأن يكون لها الدور الهام في الحياة الاجتماعية.

وبهذا الاعتبار فإن هـذه التنظيمات أصبحت تمثل مظهرا من مظاهر الإرادة الجماعية للأمة، وهي بذلك تعد وسيلة ذات فعالية في تطبيق المشروع الإسلامي، إذ هـي تضمن من جهة السند الجماعي في تطبيق المشروع، وتضمن من جهة أخرى أكبر قدر من تعميمه وسريانه بين الناس، بما تمثل من الإرادة الجماعية، وإذا كان المتحملون لهم تطبيق الشريعة اليوم، في كثير من البلاد الإسلامية لا يتمكنون من إنشاء المؤسسات الاجتماعية، بالكيفية التي يرونها صالحة لإنجاز ما يريدون، فإن المهم أن يحصل الوعي بقيمة هـذه القاعدة في فقه الإنجاز، وحينئذ فإن هـذا الوعي سيكون دافعا لاستثمار ما هـو متاح في مجال المؤسسات، وللسعي في سبيل إتاحة الظروف لتنظيم الإرادة الجماعية، في مؤسسات اجتماعية، أكثر كفاءة للقيام بدورها المنشود في إنجاز الشريعة.

هذا وإن البوادر التي نشاهدها اليوم في بعض البلاد الإسلامية قائمة على هـذه القاعدة في فقه الإنجاز، لتشهد نجاحا باهرا في تطبيق [ ص: 153 ] المشروع الإسلامي، حتى أصبحت البنوك الإسلامية ومؤسسات الاستثمار، نماذج حية لاقتصاد إسلامي، تطاول المؤسسات الاقتصادية القائمة، وتمتد في العمق الشعبي الاجتماعي على حسابها، ومثل ذلك المؤسسات الاجتماعية، في مجال التأمين والخدمة الاجتماعية والصحة العامة، ورغم قصر التجربة العملية لهذه المؤسسات، ورغم المناخ العدائي من قبل بعض الأنظمة القائمة في مجالها، فإنها أصبحت بما تحقق من النجاح مصداقا لفقه إنجازي، يقوم على الإرادة الجماعية، وذلك فقه تفرضه طبيعة الواقع الاجتماعي في هـذا العصر. [ ص: 154 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية