الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 433 ] قوله تعالى

لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون

أجمع أهل السنة على أن الله - تبارك وتعالى - يرى يوم القيامة؛ يراه المؤمنون؛ وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس - رضي الله عنه -؛ والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا؛ ثم يسند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز؛ واختصار تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله - عز وجل -؛ فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان؛ ولا متحيزا؛ ولا متقابلا؛ ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود؛ جاز أن نراه غير مقابل؛ ولا محاز؛ ولا مكيف؛ ولا محدود؛ وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة؛ ثم ورد الشرع بذلك؛ وهو قوله - سبحانه وتعالى -: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ؛ وتعدية النظر بـ "إلى"؛ إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية؛ لا لمعنى الانتظار؛ على ما ذهب إليه المعتزلة؛ وذكر هذا المذهب لمالك ؛ فقال: "فأين هم عن قوله تعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ؟".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فقال بدليل الخطاب؛ ذكره النقاش ؛ ومنه قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم - فيما صح عنه؛ وتواتر؛ وكثر نقله -: "إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر"؛ ونحوه من الأحاديث؛ على اختلاف ترتيب ألفاظها.

[ ص: 434 ] وذهبت المعتزلة إلى المنع من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة؛ واستحالة ذلك؛ بآراء مجردة؛ وتمسكوا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار ؛ وانفصل أهل السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا؛ ورؤية الآخرة ثابتة بأخبارها.

وانفصال آخر؛ وهو أن يفرق بين معنى الإدراك؛ ومعنى الرؤية؛ ونقول: إنه - عز وجل - تراه الأبصار؛ ولا تدركه؛ وذلك الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء؛ والوصول إلى أعماقه؛ وحوزه من جميع جهاته؛ وذلك كله محال في أوصاف الله - عز وجل -؛ والرؤية لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي؛ ويبلغ غايته؛ وعلى هذا التأويل يترتب العكس في قوله: وهو يدرك الأبصار ؛ ويحسن معناه؛ ومثل هذا روي عن ابن عباس ؛ وقتادة ؛ وعطية العوفي ؛ فرقوا بين الرؤية؛ والإدراك؛ وأما الطبري - رحمه الله - ففرق بين الرؤية؛ والإدراك؛ واحتج بقول بني إسرائيل: "إنا لمدركون"؛ فقال: إنهم رأوهم ولم يدركوهم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا كله خطأ؛ لأن هذا الإدراك ليس بإدراك البصر؛ بل هو مستعار منه؛ أو باشتراك؛ قال: وقال بعضهم: إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم القيامة؛ وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة؛ سليمة؛ قال: وقال بعضهم: إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين؛ أي: "إنه لا تدركه أبصارهم؛ لأنهم محجوبون عنه".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه الأقوال كلها ضعيفة؛ ودعاوى لا تستند إلى قرآن؛ ولا إلى حديث.

و"اللطيف": المتلطف في خلقه؛ واختراعه؛ وإتقانه؛ وبخلقه وعباده؛ و"الخبير": المختبر لباطن أمورهم؛ وظاهرها.

و"البصائر": جمع "بصيرة"؛ وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار؛ فكأنه قال: "قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق؛ والمعينة عليه".

[ ص: 435 ] والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين؛ والبصيرة أيضا هي المعتقد المحصل في قول الشاعر:


راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأى



وقال بعض الناس في هذا البيت: البصيرة: طريقة الدم؛ والشاعر إنما يصف جماعة مشوا به في طلب دم؛ ففتروا؛ فجعلوا الأمر وراء ظهورهم.

وقوله تعالى "فمن أبصر"؛ "ومن عمي"؛ عبارة مستعارة فيمن اهتدى؛ ومن ضل؛ وقوله سبحانه: وما أنا عليكم بحفيظ ؛ كان في أول الأمر؛ وقبل ظهور الإسلام؛ ثم بعد ذلك كان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - حفيظا على العالم؛ آخذا لهم بالإسلام؛ والسيف.

وقوله تعالى وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ؛ الآية؛ الكاف في قوله - سبحانه -: "وكذلك"؛ في موضع نصب بـ "نصرف"؛ أي: ومثلما بينا البصائر؛ وغير ذلك نصرف الآيات؛ أي نرددها؛ ونوضحها؛ وقرأت طائفة: "وليقولوا درست"؛ بسكون اللام؛ على جهة الأمر؛ ويتضمن التوبيخ؛ والوعيد؛ وقرأ الجمهور: "وليقولوا"؛ بكسر اللام؛ على أنها لام "كي"؛ وهي - على هذا - لام الصيرورة؛ كقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ؛ أي: "لما صار أمرهم إلى ذلك"؛ وقرأ نافع ؛ وعاصم ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "درست"؛ أي: "يا محمد؛ درست في الكتب القديمة ما تجيبنا به"؛ وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو : "دارست"؛ أي: "أنت يا محمد دارست غيرك في هذه الأشياء"؛ أي: "قارأته؛ وناظرته"؛ وهذا إشارة منهم إلى سلمان ؛ وغيره من الأعاجم واليهود؛ وقرأ ابن عامر ؛ وجماعة من غير السبعة: "درست"؛ بإسناد الفعل إلى الآيات؛ كأنهم أشاروا إلى أنها ترددت على أسماعهم حتى بليت في نفوسهم؛ وامحت؛ قال أبو علي : واللام في "ليقولوا"؛ على هذه القراءة؛ بمعنى: "لئلا يقولوا"؛ أي: "صرفت [ ص: 436 ] الآيات وأحكمت؛ لئلا يقولوا: هذه الأساطير قديمة؛ قد بليت؛ وتكررت على الأسماع"؛ واللام على سائر القراءات لام الصيرورة؛ وقرأت فرقة: "دارست"؛ كأنهم أرادوا: "دارستك يا محمد"؛ أي الجماعة المشار إليها قبل؛ من سلمان واليهود وغيرهم؛ وقرأت فرقة: "درست"؛ بضم الراء؛ وكأنها في معنى: "درست"؛ أي: بليت؛ وقرأ قتادة : "درست"؛ بضم الدال؛ وكسر الراء؛ وهي قراءة ابن عباس ؛ بخلاف عنه؛ ورويت عن الحسن؛ قال أبو الفتح: في "درست"؛ ضمير "الآيات"؛ ويحتمل أن يراد: "عفيت؛ وتنوسيت"؛ وقرأ أبي بن كعب : "درس"؛ وهي في مصحف عبد الله ؛ قال المهدوي: وفي بعض مصاحف عبد الله "درسن"؛ ورويت عن الحسن؛ وقرأت فرقة: "درسن"؛ بتشديد الراء؛ على المبالغة في "درسن"؛ وهذه الثلاثة الأخيرة مخالفة لخط المصحف.

واللام في قوله تعالى "وليقولوا"؛ وفي قوله - سبحانه -: "ولنبينه"؛ متعلقان بفعل متأخر؛ تقديره: "صرفناها"؛ وقرأ أبي بن كعب ؛ وابن مسعود : "ولتبينه"؛ بالتاء؛ على مخاطبة النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وقرأت فرقة: "وليبينه"؛ بياء؛ أي: الله تعالى ؛ وذهب بعض الكوفيين إلى أن "لا" مضمرة بعد "أن"؛ المقدرة في قوله تعالى "وليقولوا"؛ فتقدير الكلام عندهم: "ولئلا يقولوا"؛ كما أضمروها في قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قلق؛ ولا يجيز البصريون إضمار "لا"؛ في موضع من المواضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية