الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الزهري : عن حمزة بن عبد الله قال : أقبل ابن عمر علينا ، فقال : ما وجدت في نفسي شيئا من أمر هذه الأمة ، ما وجدت في نفسي من أن أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله .

                                                                                      قلنا : ومن ترى الفئة الباغية ؟ قال : ابن الزبير بغى على هؤلاء القوم ، فأخرجهم من ديارهم ، ونكث عهدهم .

                                                                                      أيوب : عن نافع ، قال : أصابت ابن عمر عارضة محمل بين أصبعيه عند الجمرة ، فمرض فدخل عليه الحجاج ، فلما رآه ابن عمر ، غمض عينيه ، فكلمه الحجاج ، فلم يكلمه فغضب ، وقال : إن هذا يقول إني على الضرب الأول ؟

                                                                                      عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو : أخبرنا جدي ، أن ابن عمر قدم حاجا فدخل عليه الحجاج ، وقد أصابه زج رمح . فقال : من أصابك ؟ [ ص: 230 ] قال : أصابني من أمرتموه بحمل السلاح في مكان لا يحل فيه حمله .

                                                                                      أحمد بن يعقوب المسعودي : حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو الأموي ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، أنه قام إلى الحجاج ، وهو يخطب ، فقال : يا عدو الله ! استحل حرم الله ، وخرب بيت الله . فقال : يا شيخا قد خرف . فلما صدر الناس ، أمر الحجاج بعض مسودته ، فأخذ حربة مسمومة ، وضرب بها رجل ابن عمر فمرض ومات منها . ودخل عليه الحجاج عائدا ، فسلم فلم يرد عليه ، وكلمه فلم يجبه .

                                                                                      هشام ، عن ابن سيرين ; أن الحجاج خطب ، فقال : إن ابن الزبير بدل كلام الله . فعلم ابن عمر ، فقال : كذب ، لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت ، قال : إنك شيخ قد خرفت الغد . قال : أما إنك لو عدت ، عدت .

                                                                                      قال الأسود بن شيبان : حدثنا خالد بن سمير قال : خطب الحجاج ، فقال : إن ابن الزبير حرف كتاب الله . فقال ابن عمر : كذبت كذبت ، ما يستطيع ذلك ولا أنت معه . قال : اسكت ، فقد خرفت وذهب عقلك ، يوشك شيخ أن يضرب عنقه ، فيخر قد انتفخت خصيتاه ، يطوف به صبيان البقيع .

                                                                                      [ ص: 231 ] الثوري ، عن عبد الله بن دينار ، قال : لما اجتمعوا على عبد الملك كتب إليه ابن عمر : أما بعد : فإني قد بايعت لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت وإن بني قد أقروا بذلك .

                                                                                      شعبة : عن ابن أبي رواد : عن نافع : أن ابن عمر أوصى رجلا يغسله ، فجعل يدلكه بالمسك .

                                                                                      وعن سالم بن عبد الله : مات أبي بمكة ، ودفن بفخ سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وثمانين ، وأوصاني أن أدفنه خارج الحرم ، فلم نقدر ، فدفناه بفخ في الحرم في مقبرة المهاجرين .

                                                                                      حبيب بن أبي ثابت : عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر قال : ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية .

                                                                                      هكذا رواه الثوري عنه ، وقد تقدم نحوه مفسرا .

                                                                                      وأما عبد العزيز بن سياه ، فرواه عنه ثقتان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، أن ابن عمر قال : ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية . فهذا منقطع .

                                                                                      وقال أبو نعيم : حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه : قال [ ص: 232 ] ابن عمر حين احتضر : ما أجد في نفسي شيئا إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية مع علي بن أبي طالب .

                                                                                      وروى أبو أحمد الزبيري ; حدثنا عبد الجبار بن العباس ، عن أبي العنبس ، عن أبي بكر بن أبي الجهم ، عن ابن عمر ، فذكر نحوه .

                                                                                      ولابن عمر أقوال وفتاوى يطول الكتاب بإيرادها ، وله قول ثالث في الفئة الباغية .

                                                                                      فقال روح بن عبادة : حدثنا العوام بن حوشب ، عن عياش العامري ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما احتضر ابن عمر ، قال : ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث ; ظمأ الهواجر ، ومكابدة الليل ، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا ، يعني الحجاج .

                                                                                      قال ضمرة بن ربيعة : مات ابن عمر سنة ثلاث وسبعين .

                                                                                      وقال مالك : بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة .

                                                                                      وقال أبو نعيم ، والهيثم بن عدي ، وأبو مسهر ، وعدة : مات سنة ثلاث وسبعين .

                                                                                      وقال سعيد بن عفير وخليفة ، وغيرهما : مات سنة أربع وسبعين .

                                                                                      والظاهر أنه توفي في آخر سنة ثلاث .

                                                                                      قال أبو بكر بن البرقي : توفي بمكة ، ودفن بذي طوى . وقيل : بفخ مقبرة المهاجرين سنة أربع .

                                                                                      قلت : هو القائل : كنت يوم أحد ابن أربع عشرة سنة فعلى هذا [ ص: 233 ] يكون عمره خمسا وثمانين سنة - رضي الله عنه - وأرضاه .

                                                                                      أخبرنا أيوب بن طارق ، وأحمد بن محمد بقراءتي ، قالا : أخبرنا أبو القاسم بن رواحة ، أخبرنا أبو طاهر السلفي ، أخبرنا أحمد بن علي الطريثيثي وأبو ياسر محمد بن عبد العزيز ، وأبو القاسم الربعي ، وأبو منصور الخياط ، قالوا : أخبرنا عبد الملك بن محمد أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفاكهي بمكة 353 ، حدثنا أبو يحيى عبد الله بن أبي مسرة حدثنا يعقوب بن إسحاق - وهو ابن بنت حميد الطويل - قال : سمعت عبد الله بن أبي عثمان يقول : رأيت ابن عمر يحفي شاربه ورأيته ينحر البدن قياما يجأ في لباتها .

                                                                                      أخبرنا إسحاق الأسدي ، أخبرنا ابن خليل ، أخبرنا اللبان ، أخبرنا أبو علي الحداد ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، حدثنا أحمد بن جعفر ; أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبو كامل ، حدثنا أبو عوانة ، عن هلال بن خباب ، عن قزعة ، قال : رأيت على ابن عمر ثيابا خشنة أو جشبة ، فقلت له : إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان ، وتقر عيناي أن أراه عليك . قال : أرنيه ، فلمسه ، وقال : أحرير هذا ؟ قلت : لا ، إنه من قطن . قال : إني أخاف أن ألبسه ، أخاف أكون مختالا فخورا ، والله لا يحب كل مختال فخور .

                                                                                      [ ص: 234 ] قلت : كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخرا فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير . فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربعمائة درهم ونحوها ، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر ، فإن نصحته ولمته برفق كابر ، وقال : ما في خيلاء ولا فخر . وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه . وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه ، وقيل له : قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار يقول : إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء ، وأنا لا أفعل خيلاء . فتراه يكابر ، ويبرئ نفسه الحمقاء ، ويعمد إلى نص مستقل عام فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء ، ويترخص بقول الصديق : إنه يا رسول الله يسترخي إزاري ، فقال : لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء فقلنا : أبو بكر - رضي الله عنه - لم يكن يشد إزاره مسدولا على كعبيه أولا ; بل كان يشده فوق الكعب ، ثم فيما بعد يسترخي .

                                                                                      وقد قال - عليه السلام - : إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مغطيا لكعابه . ومنه طول الأكمام زائدا ، وتطويل العذبة . وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس . وقد يعذر الواحد منهم بالجهل ، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة . فإن خلع على رئيس خلعة سيراء من ذهب وحرير وقندس ، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها ، الشخص يسحبها ويختال فيها ، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات ، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مكس أو ولاية شرطة . فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب ، وفي [ ص: 235 ] الآخرة أشد عذابا وتنكيلا . فرضي الله عن ابن عمر وأبيه . وأين مثل ابن عمر في دينه ، وورعه وعلمه ، وتألهه وخوفه ، من رجل تعرض عليه الخلافة ، فيأباها ، والقضاء من مثل عثمان ، فيرده ، ونيابة الشام لعلي ، فيهرب منه . فالله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية