الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 281 ] الثالث : سائر المال فيلزمه حفظها ، ويعرف الجميع بالنداء عليه في مجامع الناس ، كالأسواق وأبواب المساجد في أوقات الصلوات حولا كاملا : من ضاع منه شيء أو نفقة ، وأجرة المنادي عليه ، وقال أبو الخطاب : ما لا يملك بالتعريف ، وما يقصد حفظه لمالكه ، يرجع بالأجرة عليه ، فإن لم يعرف دخلت في ملكه بعد الحول حكما كالميراث ، وعند أبي الخطاب : لا يملكه حتى يختار ذلك ، وعن أحمد : لا تملك إلا الأثمان ، وهي ظاهر المذهب ، وهل له الصدقة بغيرها ؛ على روايتين . وعنه : لا تملك لقطة الحرم بحال .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          ( الثالث : سائر المال ) كالأثمان والمتاع ( فيلزمه حفظها ) لأنها أمانة ( ويعرف الجميع ) وجوبا ; لأنه - عليه السلام - أمر به زيد بن خالد ، وأبي بن كعب ، ولأنه طريق إلى وصولها إلى صاحبها فوجب ذلك لحفظها ، وظاهره ولو وجدها في دار حرب ، فإن كان في جيش فقال أحمد : يعرفها سنة في دار الإسلام ، ثم يطرحها في المغنم ( بالنداء عليه ) لأنه طريق إلى إيصال المال إلى مستحقه ، وقد تضمن ذلك وجوبه ، وقدره ، وزمانه ، ومكانه ، ومن يتولاه ، أما وجوبه فهو واجب على كل ملتقط ، سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها ، إلا في اليسير الذي لا تتبعه الهمة ( في مجامع الناس كالأسواق ، وأبواب المساجد في أوقات الصلوات ) هذا مكانه ; لأن المقصود إشاعة ذكرها وإظهارها ليظهر عليها صاحبها ، وذلك طريق إليه ، وروي عن عمر أنه أمر واجد اللقطة بتعريفها على باب المسجد ، وعلم منه أنه لا يفعل ذلك في المسجد ، وإن كان مجمع الناس ، بل يكره ، وفي " عيون المسائل " لا يجوز ، وقاله ابن بطة لقوله للرجل : لا ردها الله عليك ، ووقته النهار ، وقد يفهم هذا من قوله كالأسواق ( حولا كاملا ) روي عن عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وقاله أكثر العلماء ، ويكون متواليا يلي الالتقاط لظاهر الأمر ، إذ مقتضاه الفور عندنا ، ولأن صاحبها يطلبها عقيب ضياعها ، فإذا عرفت إذن ، كان أقرب إلى وصولها إليه ، بخلاف ما لو تأخر ، ولأن السنة لا تتأخر عنها القوافل ، ويمضي فيها الزمان الذي يقصد فيها البلاد من البر والبحر ، فصلحت قدرا كأجل العنين ، فيكون نهارا متواليا في أسبوع ، وفي " الترغيب " ثم مرة كل أسبوع في شهر ، ثم مرة في كل شهر ، ثم العادة ، ولا تعرف كلاب بل ينتفع بالمباح منها ( من ضاع ) هذا بيان من يتولاه ( منه شيء أو نفقة ) ولا يصفه ، فإنه لا يؤمن [ ص: 282 ] أن يسمعه أحد فيصفه فيأخذه فيفوت على المالك ، وفي " المغني " و " الشرح " يذكر جنسها فيقول : من ضاع منه ذهب أو فضة ، ومقتضاه أنه إذا أطنب في الصفات فهو ضامن ، وظاهره أنه يلزمه تعريفها ، ولو مع خوفه من سلطان جائر ليأخذها ، أو يطالبه بأكثر ، فإن أخر لم يملكها إلا بعده ، ذكره جماعة .

                                                                                                                          ( وأجرة المنادي عليه ) أي : على الملتقط ، نص عليه ; لأنه سبب ، فكانت الأجرة عليه ، كما لو اكترى شخصا يقطع له مباحا ، فلو تولى ذلك بنفسه فلا شيء له ( وقال أبو الخطاب : ما لا يملك بالتعريف ، وما يقصد حفظه لمالكه يرجع بالأجرة عليه ) لأنه من مؤنة إيصالها إليه ، فكان على مالكها كأجرة مخزنها ، وراعيها ، ونسب في " المغني " ، و " الشرح " ما لا يملك بالتعريف إلى ابن عقيل ، وما يقصد حفظه إلى أبي الخطاب ، وعند الحلواني وابنه منها كمؤنة التجفيف ، وقيل : منها إن لم يملك ، وذكره في " الفنون " ظاهر كلام أصحابنا .

                                                                                                                          مسألة : إذا أخر التعريف عن الحول الأول مع إمكانه أثم للأمر به ، وهو مقتضى الوجوب ، ولأن الظاهر أنه بعد الحول يسلو عنها ويترك طلبها ، ويسقط بتأخيره عن الحول الأول ، نص عليه ، فإن تركه في بعض الحول عرف بقيته ، وقيل : لا يسقط بتأخيره ; لأنه واجب فلا يسقط بتأخيره عن وقته كسائر الواجبات ، وعليهما لا يملكها بالتعريف فيما عدا الحول الأول ; لأن شرط الملك التعريف فيه ولم يوجد ، نعم لو تركه لمرض ونسيان ملكها بالتعريف في ثاني الحول في وجه ، وفي آخر حكمه حكم من تركه لغير عذر فلا يملكها ، إذ الحكم ينتفي بانتفاء سببه مطلقا ( فإن لم يعرف دخلت في ملكه بعد الحول حكما ) أي : من [ ص: 283 ] غير اختيار ( كالميراث ) نص عليه ، وذكره في " عيون المسائل " الصحيح من المذهب غنيا كان أو فقيرا لظاهر الأحاديث " فإن لم تعرف فاستنفقها " وفي لفظ " فهي كسبيل مالك " وفي لفظ " ثم كلها " وفي لفظ " فانتفع بها " وفي لفظ " فشأنك بها " وفي لفظ " فاستمتع بها " ولو وقف ملكها على تملكها ، لبينه له ، ولم يجوز له التصرف قبله ، ولأن الالتقاط والتعريف سبب للملك ، فإذا تم وجب أن يثبت به الملك حكما ، كالإحياء والاصطياد ( وعند أبي الخطاب لا يملكه حتى يختار ذلك ) وهو رواية في " الواضح " ; لأن هذا يملك بعوض ، فلم يحصل إلا باختيار المالك كالقرض ، فعليه لا بد من لفظ ، فلو التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها ، فإن قلنا تقف على الاختيار ، فاختار أحدهما دون الآخر ملك المختار نصفها ، وإن قال أحدهما لصاحبه هاتها ، فأخذها لنفسه ، فهي له دون الآمر ، وإن أخذها للآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد ، وفي " الكافي " لرافعها ; لأنه لا يصح التوكيل فيه ( وعن أحمد لا تملك إلا الأثمان وهي ظاهر المذهب ) نقلها واختارها الأكثر ; لأن الخبر ورد فيها ، وغيرها لا يساويها لعدم الغرض المتعلق بها ، فمثلها يقوم مقامها من كل وجه بخلاف غيرها ، فدل أن العروض لا تملك ، نص عليه في رواية الجماعة ، وقاله أكثر الأصحاب مع أنه ذكر في " المغني " ، ولا أعلم بين أكثر أهل العلم فرقا بين الأثمان ، والقروض ، وعنه : ولا الشاة ، والمذهب عند العامة أن الشاة تملك دون العروض ، قاله الزركشي .

                                                                                                                          ( وهل له الصدقة بغيرها ) أي : بعد التعريف المعتبر تباع ، ويتصدق بثمنها ( على روايتين ) أظهرهما : له الصدقة به بشرط ضمانه ، روي عن ابن مسعود [ ص: 284 ] ولأن الإنسان ينتفع بما له تارة لمعاشه ، وتارة لمعاده ، فإذا انتفى الأول تعين الثاني ، والثاني : لا يتصدق به ; لأنه تصرف في مال غيره بغير إذنه ، ولأنه يحتمل أن يظهر صاحبها فيأخذها ، قال الخلال : هذا قول قديم رجع عنه ، فعليه يعرفها أبدا ، اختاره أبو بكر ، وابن عقيل ، وقال القاضي في " الخصال " يخير بين تعريفها أبدا وبين دفعها إلى الحاكم ليرى رأيه فيها ، وقال ابن عقيل في " البداية " يدفعها إلى الحاكم ، وظاهر كلام جماعة خلافه ، قال في " الفروع " : وتتوجه الروايتان فيما يأخذه السلطان من اللصوص إذا لم يعرف ربه ، ونقل صالح في اللقطة يبيعه ويتصدق بثمنه بشرط ضمانه ( وعنه : لا تملك لقطة الحرم بحال ) بل يجوز أخذها للحفظ ، اختاره الشيخ تقي الدين وغيره من المتأخرين لقوله - عليه السلام - في مكة : لا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، متفق عليه ، قال أبو عبيد : المنشد : المعرف ، والناشد : الطالب ، فيكون معناه لا تحل لقطة مكة إلا لمن يعرفها ; لأنها خصت بهذا من بين سائر البلدان ، فتعرف أبدا ، أو يدفعها إلى حاكم ، والمذهب أنه كالحل لحديث زيد ، وبأن عموم الأشخاص يتناول عموم الأحوال ، إذ قوله : من وجد لقطة ، عام في كل واجد ، وعموم الواجدين يستلزم عموم أحوالهم ، وعن أحمد أن اللقطة لا تملك بحال ، نقلها حنبل ، والبغوي ، ذكره السامري .




                                                                                                                          الخدمات العلمية