الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه ; فالعبد إذا كان مريدا [ ص: 526 ] للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها ; صلى فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة . وبهذا يزول الاشتباه في " هذا المقام " . فإن الناس تنازعوا في الإرادة بلا عمل ; هل يحصل بها عقاب ؟ . وكثر النزاع في ذلك . فمن قال : لا يعاقب احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به } وبما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : إذا هم العبد بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة وإذا هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة ; فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وفي رواية فإن تركها فاكتبوها له حسنة ; فإنما تركها من جرائي } . ومن قال : يعاقب احتج بما في الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا التقى المسلمان بسيفيهما . فالقاتل والمقتول في النار ; قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ; قال : إنه أراد قتل صاحبه } وبالحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي كبشة الأنماري { عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجلين اللذين أوتي أحدهما علما ومالا فهو ينفقه في طاعة الله ; ورجل أوتي علما ولم يؤت مالا ; فقال : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان قال : فهما في الأجر سواء ; ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو ينفقه في معصية الله ; ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا فقال : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان ; قال فهما في الوزر سواء } .

                [ ص: 527 ] و " الفصل في ذلك " أن يقال : فرق بين الهم والإرادة " فالهم " قد لا يقترن به شيء من الأعمال الظاهرة فهذا لا عقوبة فيه بحال بل إن تركه لله كما ترك يوسف همه أثيب على ذلك كما أثيب يوسف ولهذا قال أحمد : الهم همان : هم خطرات ، وهم إصرار ولهذا كان الذي دل عليه القرآن أن يوسف لم يكن له في هذه القضية ذنب أصلا بل صرف الله عنه السوء والفحشاء إنه من عباده المخلصين ; مع ما حصل من المراودة والكذب والاستعانة عليه بالنسوة وحبسه وغير ذلك من الأسباب التي لا يكاد بشر يصبر معها عن الفاحشة ولكن يوسف اتقى الله وصبر فأثابه الله برحمته في الدنيا . { ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } . وأما " الإرادة الجازمة " فلا بد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور ولو بنظرة أو حركة رأس أو لفظة أو خطوة أو تحريك بدن ; وبهذا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار } . فإن المقتول أراد قتل صاحبه فعمل ما يقدر عليه من القتال وعجز عن حصول المراد وكذلك الذي قال : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان فإنه أراد فعل ما يقدر عليه وهو الكلام ولم يقدر على ذلك ولهذا كان من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء لأنه أراد ضلالهم ففعل ما يقدر عليه من دعائهم إذ لا يقدر إلا على ذلك .

                [ ص: 528 ] وإذا تبين هذا في " الإرادة والعمل " : فالتصديق الذي في القلب وعلمه يقتضي عمل القلب كما يقتضي الحس الحركة الإرادية لأن النفس فيها قوتان : قوة الشعور بالملائم والمنافي والإحساس بذلك والعمل والتصديق به ، وقوة الحب للملائم والبغض للمنافي والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة والمعاداة . وإدراك الملائم يوجب اللذة والفرح والسرور وإدراك المنافي يوجب الألم والغم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء } . فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقا به ودينا له لكن يعرض لها ما يفسدها ومعرفة الحق تقتضي محبته ، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه ; لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل لكن قد يعرض لها ما يفسدها إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه ولهذا أمرنا الله أن نقول في الصلاة : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون } لأن اليهود يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ولا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته . والنصارى لهم عبادة وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها لكن بلا علم فهم ضلال . هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح وهؤلاء [ ص: 529 ] لهم قصد في الخير بلا معرفة له وينضم إلى ذلك الظن واتباع الهوى ; فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ; ولا قصد نافع بل يكون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } وقال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } . فالإيمان في القلب لا يكون إيمانا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك ; كما أنه لا يكون إيمانا بمجرد ظن وهوى ; بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل القلب ، وليس لفظ الإيمان مرادفا للفظ التصديق كما يظنه طائفة من الناس ; فإن التصديق يستعمل في كل خبر فيقال لمن أخبر بالأمور المشهورة مثل : الواحد نصف الاثنين ، والسماء فوق الأرض مجيبا : صدقت وصدقنا بذلك ; ولا يقال : آمنا لك ولا آمنا بهذا حتى يكون المخبر به من الأمور الغائبة فيقال للمخبر آمنا له وللمخبر به آمنا به كما قال إخوة يوسف : { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمقر لنا ومصدق لنا لأنهم أخبروه عن غائب ومنه قوله تعالى { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } وقوله تعالى { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } وقوله تعالى { أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون } وقوله تعالى { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } أي : أقر له .

                [ ص: 530 ] وذلك أن الإيمان يفارق التصديق أي : لفظا ومعنى ; فإنه أيضا يقال : صدقته فيتعدى بنفسه إلى المصدق ولا يقال أمنته إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة بل آمنت له وإذا ساغ أن يقال : ما أنت بمصدق لفلان كما يقال : هل أنت مصدق له . لأن الفعل المتعدي بنفسه إذا قدم مفعوله عليه أو كان العامل اسم فاعل ونحوه مما يضعف عن الفعل فقد يعدونه باللام تقوية له كما يقال : عرفت هذا وأنا به عارف وضربت هذا وأنا له ضارب وسمعت هذا ورأيته وأنا له سامع وراء كذلك يقال صدقته وأنا له مصدق ولا يقال صدقت له به وهذا خلاف آمن فإنه لا يقال إذا أردت التصديق آمنته كما يقال أقررت له ومنه قوله آمنت له كما يقال أقررت له فهذا فرق في اللفظ . و " الفرق الثاني " : ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار بل في الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب . فإذا أقر بها المستمع قيل آمن بخلاف لفظ التصديق فإنه عام متناول لجميع الأخبار . وأما " المعنى " : فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة ; كما أن لفظ الإقرار : مأخوذ من قريقر وهو قريب من آمن يأمن ; لكن الصادق يطمأن إلى خبره ; والكاذب بخلاف ذلك كما يقال الصدق طمأنينة والكذب ريبة ; فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام ثم إنه يكون على وجهين : [ ص: 531 ] ( أحدهما ) : الإخبار وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق ; والشهادة ونحوهما . وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار .

                و ( الثاني ) إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } . وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } . فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول وكذلك " لفظ الإيمان " فيه إخبار وإنشاء والتزام ; بخلاف لفظ التصديق المجرد فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر ; لا يقال فيه آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنا للمخبر ; إلا بالتزام طاعته مع تصديقه ; بل قد استعمل لفظ الكفر - المقابل للإيمان - في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد ; فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد ; فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين .

                و " أيضا " فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار فإن التصديق [ ص: 532 ] إخبار بصدق المخبر ; والتكذيب إخبار بكذب المخبر ; فقد يصدق الرجل الكاذب تارة [ وقد يكذب الرجل ] الصادق أخرى فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر ، وهما خبر عن الخبر فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر مخبر عنها بخلاف الإيمان والإقرار والإنكار والجحود ونحو ذلك فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق أيضا . وأيضا فالذوات التي تحب تارة وتبغض أخرى وتوالى تارة وتعادى أخرى وتطاوع تارة وتعصى أخرى ويذل لها تارة ويستكبر عنها أخرى تختص هذه المعاني فيها بلفظ الإيمان والكفر ونحو ذلك ; وأما لفظ التصديق والصدق ونحو ذلك فيتعلق بمتعلقها كالحب والبغض فيقال : حب صادق . وبغض صادق فكما أن الصدق والكذب في إثبات الحقائق ونفيها متعلق بالخبر النافي والمثبت دون الحقيقة ابتداء . فكذلك في الحب والبغض ونحو ذلك يتعلق بالحب والبغض . دون الحقيقة ابتداء بخلاف لفظ الإيمان والكفر فإنه يتناول الذوات بلا واسطة إقرار أو إنكار أو حب أو بغض أو طمأنينة أو نفور . ويشهد لهذا الدعاء المأثور المشهور عند استلام الحجر { اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم } فقال إيمانا بك ولم يقل تصديقا بك كما قال تصديقا بكتابك وقال تعالى عن [ ص: 533 ] مريم : { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } فجعل التصديق بالكلمات والكتب ومنه الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { تكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق بكلماتي ويروى إيمان بي وتصديق برسلي ويروى لا يخرجه إلا جهاد في سبيل الله وتصديق كلماته } ففي جميع الألفاظ جعل لفظ التصديق بالكلمات والرسل .

                وكذلك قوله في الحديث الذي في الصحيح { ذكر النبي صلى الله عليه وسلم منازل عالية في الجنة فقيل له : يا رسول الله : تلك منازل لا يبلغها إلا الأنبياء فقال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين } . وما يحصى الآن الاستعمال المعروف في كلام السلف صدقت بالله ، أو فلان يصدق بالله أو صدق بالله ونحو ذلك كما جاء فلان يؤمن وآمن بالله وإيمانا بالله ونؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ونؤمن بالله وحده ونحو ذلك . فإن القرآن والحديث وكلام الخاصة والعامة مملوء من لفظ الإيمان بالله وآمن بالله ونؤمن بالله ويا أيها الذين آمنوا وما أعلم قيل التصديق بالله أو صدقوا بالله أو يا أيها الذي صدق الله ونحو ذلك اللهم إلا أن يكون في ذلك شيء لا يحضرني الساعة وما أظنه . ولفظ " الإيمان " يستعمل في الخبر أيضا كما يقال : { كل آمن بالله } أي أقر له والرسول يؤمن له من جهة أنه مخبر ويؤمن به من جهة أن رسالته مما أخبر بها كما يؤمن بالله وملائكته وكتبه . " فالإيمان " متضمن للإقرار بما أخبر [ ص: 534 ] به والكفر " تارة " يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به . و " تارة " بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد غيره . وإن كان الرسول أخبر بكليهما ثم مجرد تصديقه في الخبر والعلم بثبوت ما أخبر به إذا لم يكن معه طاعة لأمره لا باطنا ولا ظاهرا ولا محبة لله ولا تعظيم له لم يكن ذلك إيمانا .

                وكفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم ; فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك ; لا لأجل تكذيب . وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } فالذي يقال هنا أحد أمرين : إما أن يقال الاستكبار والإباء والحسد ونحو ذلك مما الكفر به مستلزم لعدم العلم والتصديق الذي هو الإيمان وإلا فمن كان علمه وتصديقه تاما أوجب استسلامه وطاعته مع القدوة كما أن الإرادة الجازمة تستلزم وجود المراد مع القدرة فعلم أن المراد إذا لم يوجد مع القدرة دل على أنه ما في القلب همة ولا إرادة ; فكذلك إذا لم يوجد موجب التصديق والعلم من حب القلب وانقياده دل على أن الحاصل في القلب ليس بتصديق ولا علم بل هنا شبهة [ ص: 535 ] وريب كما يقول ذلك طوائف من الناس وهو أصل قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه كالقاضي أبي بكر ومن اتبعه ممن يجعل الأعمال الباطنة والظاهرة من موجبات الإيمان لا من نفسه ويجعل ما ينتفي الإيمان بانتفائه من لوازم التصديق لا يتصور عنده تصديق باطن مع كفر قط .

                أو أن يقال : قد يحمل في القلب علم بالحق وتصديق به ولكن ما في القلب من الحسد والكبر ونحو ذلك مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته ; وليس هذا كالإرادة مع العمل ; لأن الإرادة مع القدرة مستلزمة للمراد وليس العلم بالحق والتصديق به مع القدرة على العمل بموجب ذلك العمل بل لا بد مع ذلك من إرادة الحق والحب له . فإذا قال القائل : القدرة التامة بدون الإرادة الجازمة مستلزمة لوجود المراد المقدور موجبة لحصول المقدور لم يكن مصيبا ; بل لا بد من الإرادة . وبهذا يتبين خطأ من قال : إن مجرد علم الله بالمخلوقات موجب لوجودها كما يقول ذلك من يقوله من أهل الفلسفة ; كما يغلط الناس من يقول إن مجرد إرادة الممكنات بدون القدرة موجب وجودها ، وكما خطئوا من قال : إن مجرد القدرة كافية بل لا بد من العلم والقدرة والإرادة في وجود المقدور والمراد ; والإرادة مستلزمة لتصور المراد والعلم به ; والعلم والإرادة والقدرة ونحو ذلك ; وإن كان قد يقال : إنها متلازمة في الحي أو أن الحياة مستلزمة لهذه الصفات أو أن بعض الصفات مشروط بالبعض فلا ريب أنه ليس كل معلوم مرادا [ ص: 536 ] محبوبا ولا مقدورا ولا كل مقدور مرادا محبوبا وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الشيء معلوما مصدقا به أن يكون محبوبا معبودا بل لا بد من العلم ; وأمر آخر به يكون هذا محبا وهذا محبوبا .

                فقول من جعل مجرد العلم والتصديق في العبد هو الإيمان وأنه موجب لأعمال القلب فإذا انتفت دل على انتفاء العلم ; بمنزلة من يقول : مجرد علم الله بنظام العالم موجب لوجوده ; بدون وجود إرادة منه وهو شبيه بقول المتفلسفة : إن سعادة النفس في مجرد أن تعلم الحقائق ولم يقرنوا ذلك بحب الله تعالى وعبادته التي لا تتم السعادة إلا بها ; وهو نظير من يقول : كمال الجسم أو النفس في الحب من غير اقتران الحركة الإرادية به ،

                التالي السابق


                الخدمات العلمية