الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب كسر الصليب وقتل الخنزير ووضع الجزية عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 265 ] باب كسر الصليب وقتل الخنزير ووضع الجزية .

                                                            عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد .

                                                            (فيه) فوائد (الأولى) اتفق عليه الشيخان وابن ماجه من هذا الوجه من طريق سفيان بن عيينة ، وأخرجه الشيخان أيضا ، والترمذي من طريق الليث بن سعد ، وأخرجه الشيخان أيضا من طريق يونس بن يزيد ، وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة .

                                                            (الثانية) قوله يوشك بكسر الشين أي يقرب ، وقوله أن ينزل أي من السماء ، وقوله فيكم أي في هذه الأمة ، وإن كان خطابا لبعضها ممن لا يدرك نزوله ، وقوله حكما بفتح الكاف أي حاكما ، والمراد أنه ينزل حاكما بهذه الشريعة لا نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة فإن هذه الشريعة باقية إلى يوم القيامة لا تنسخ ، ولا نبي بعد نبينا كما نطق بذلك ، وهو الصادق المصدوق بل هو حاكم من حكام هذه الأمة ، وفي حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم أنه حين ينزل يمتنع من التقدم لإمامة الصلاة ، ويقول إمامكم منكم ، وقوله مقسطا أي عادلا يقال أقسط يقسط إقساطا فهو مقسط إذا عدل ، والقسط بكسر القاف العدل أما القاسط فهو الجائر ، ومنه قوله تعالى وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا يقال منه قسط يقسط قسطا بفتح القاف .

                                                            (الثالثة) قوله (يكسر الصليب) معناه يكسره حقيقة ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه ، ويغير ما نسبوه إليه من الباطل كما غيره نبينا صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم [ ص: 266 ] أنهم على الباطل في ذلك فهو كذلك مصحح لشريعة نبينا ماش على سنن الاستقامة فيها ، وفيه تغيير المنكرات ، وآلات الباطل .



                                                            (الرابعة) قوله ويقتل الخنزير قال النووي فيه دليل للمختار في مذهبنا ، ومذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنزير في دار الكفر وغيرها وتمكنا من قتله قتلناه ، وإبطال لقول من شذ من أصحابنا وغيرهم فقالوا يترك إذا لم يكن فيه ضراوة .



                                                            (الخامسة) قوله ويضع الجزية قال النووي الصواب في معناه أنه لا يقبلها ، ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام ، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل هكذا قاله الخطابي ، وغيره من العلماء ، وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء معنى هذا ثم قال : وقد يكون فيض المال [ هنا ] من وضع الجزية ، وهو ضربها على جميع الكفرة فإنه لا يقاتله أحد ، وتضع الحرب أوزارها ، وانقياد جميع الناس له إما بالإسلام ، وإما بالقائد فيضع عليه الجزية ، ويضربها هذا كلام القاضي قال النووي ، وليس بمقبول ، والصواب ما قدمناه ، وهو أنه لا يقبل إلا الإسلام .

                                                            (السادسة) إن قلت كيف يضع السيد عيسى عليه السلام الجزية مع أن حكم الشرع وجوب قبولها من أهل الكتاب قال الله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فكيف يحكم بغير هذه الشريعة ، وهو خلاف ما قررتم من أنه لا يحكم إلا بهذه الشريعة (قلت) قال النووي جوابه أن هذا الحكم ليس مستمرا إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخه ، وليس عيسى صلى الله عليه وسلم هو الناسخ بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ فإن عيسى يحكم بشريعتنا فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انتهى .

                                                            (السابعة) فإن قلت ما المعنى في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه السلام في قبول الجزية (قلت) قال ابن بطال إنما قبلناها نحن لحاجتنا إلى المال ، وليس يحتاج عيسى عند خروجه إلى مال لأنه يفيض في أيامه حتى لا يقبله أحد فلا يقبل إلا الإيمان بالله وحده انتهى .

                                                            (قلت) ويظهر لي أن قبول الجزية من اليهود والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم فإذا نزل عيسى زالت تلك [ ص: 267 ] الشبهة لحصول معاينته فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ، والحكم يزول بزوال علته ، وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له ، وهو أولى مما ذكره ابن بطال ، والله أعلم .

                                                            (الثامنة) قوله ويفيض المال هو بفتح الياء ، ومعناه يكثر وتنزل البركات ، وتتوالى الخيرات بسبب العدل وعدم التظالم ، ولما تلقيه الأرض من الكنوز كما جاء في الحديث الصحيح وتفيء الأرض أفلاذ كبدها ، وأيضا فتقل الرغبات في الأموال لقصر الآمال ، وعلم الناس بقرب الساعة فإن عيسى عليه السلام هو آخر علاماتها تقبض عقبه أرواح المؤمنين ، ولا يبقى في الأرض من يعرف الله ، وعليهم تقوم الساعة ، وهو مأخوذ من فاض الوادي إذا سال وفاض الدمع أي كثر ، والظاهر أنه منصوب عطفا على قوله ينزل فأخبر عليه الصلاة والسلام بنزول عيسى عليه السلام يفعل ما حكاه عنه ، ويفيض المال حتى يترتب على ذلك أنه لا يقبله أحد مع بذل صاحبه له فكيف يأخذه ظلما ذلك أولى بأن لا يؤخذ .




                                                            الخدمات العلمية