الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون

                                                                                                                                                                                                                                        هذا تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة، وذكر الأعمال الموصلة إليها [ ص: 1597 ] فقال: فما أوتيتم من شيء من ملك ورياسة، وأموال وبنين، وصحة وعافية بدنية. فمتاع الحياة الدنيا لذة منغصة منقطعة. وما عند الله من الثواب الجزيل، والأجر الجليل، والنعيم المقيم خير من لذات الدنيا، خيرية لا نسبة بينهما وأبقى لأنه نعيم لا منغص فيه ولا كدر، ولا انتقال.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر لمن هذا الثواب فقال: للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي: جمعوا بين الإيمان الصحيح، المستلزم لأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة، وبين التوكل الذي هو الآلة لكل عمل، فكل عمل لا يصحبه التوكل فغير تام، وهو الاعتماد بالقلب على الله في جلب ما يحبه العبد، ودفع ما يكرهه مع الثقة به تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                        والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش والفرق بين الكبائر والفواحش -مع أن جميعهما كبائر- أن الفواحش هي الذنوب الكبار التي في النفوس داع إليها، كالزنا ونحوه، والكبائر ما ليس كذلك، هذا عند الاقتران، وأما مع إفراد كل منهما عن الآخر فإن الآخر يدخل فيه.

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي: قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح.

                                                                                                                                                                                                                                        فترتب على هذا العفو والصفح، من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير، كما قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم

                                                                                                                                                                                                                                        والذين استجابوا لربهم أي: انقادوا لطاعته، ولبوا دعوته، وصار قصدهم رضوانه، وغايتهم الفوز بقربه.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن الاستجابة لله، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلذلك عطفهما على ذلك، من باب عطف العام على الخاص، الدال على شرفه وفضله فقال: وأقاموا الصلاة أي: ظاهرها وباطنها، فرضها ونفلها. ومما رزقناهم ينفقون من النفقات الواجبة، كالزكاة والنفقة على الأقارب ونحوهم، والمستحبة، كالصدقات على عموم الخلق.

                                                                                                                                                                                                                                        وأمرهم الديني والدنيوي شورى بينهم أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها [ ص: 1598 ] وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عموما، فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                        والذين إذا أصابهم البغي أي: وصل إليهم من أعدائهم هم ينتصرون لقوتهم وعزتهم، ولم يكونوا أذلاء عاجزين عن الانتصار.

                                                                                                                                                                                                                                        فوصفهم بالإيمان، والتوكل على الله، واجتناب الكبائر، والفواحش الذي تكفر به الصغائر، والانقياد التام، والاستجابة لربهم، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الإحسان، والمشاورة في أمورهم، والقوة والانتصار على أعدائهم، فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم، فعل ما هو دونها، وانتفاء ضدها.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية