الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أصبت بالرهاب وفقدان الثقة بسبب قسوة أبي، فما العلاج؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أبي قاسٍ في تربيته لنا أنا وأخواتي منذ صغرنا، يضربنا ضربًا عنيفًا، وكان يُرعبنا، وكن نطمئن عند ابتعاده أو سفره، حرمنا من اللبس والأكل والشرب، ويصرف على أشياء تافهة، وليس حنونًا على أي أحد منا، ويتهمنا بالفشل في حين أنه هو من يُقلل منَّا ويتحدث عن كل واحد منا من ورائه، ويشتم أمي ويهينها ويضربها ضربًا شديدًا.

لجأنا لأمه (جدتي) لكنها -للأسف- لم تحل أي شيء، ووقفت في صفه، وهو يرفض أن يُجهزنا أنا وأختي، هذا غير أنه كان هو المتحكم في حياتنا بقراراته، جعلنا نُصاب بالرهاب الاجتماعي ولا نعرف كيف نواجه الحياة؛ لفقدان الثقة بأنفسنا، ولأننا لم نعتد على التعامل مع الناس.

كبرت وأصبح عمري 21 سنة، وأعاني من خوف شديد يجعلني أتوقع الأسوأ دائمًا في كل شيء، وأخاف من الناس، وليس لدي ثقة في أحد بسببه، ولا أستطيع أن أواجه الضغوط، وأهرب منها حتى أطمئن، جسمي يستجيب للخوف بسرعة، فقلبي يدق بسرعة، وأعرق وأرتعش وهكذا!

طبعًا موضوع مثل هذا يحتاج لعلاج سلوكي عند مختص؛ لأن العلاج الدوائي مجرد علاج مسكن، لكنه يعالج الأثر، لكن الخوف يُعالج بالعلاج السلوكي، لكنه لا يقبل أن أُعالج ولا أن يدفع، ومتحكم في المصاريف، ويرى أنه هو المظلوم، وأننا نحمله فوق طاقته، وكلما أتعب أو ألجأ له يلطم وجهه ويضربني، وقد طردني مرة من البيت؛ لأني لم أكمل الدراسة.

كان هذا الأمر رغمًا عني، فقد وصلت لمرحلة أن قلبي لم يعد يشعر بوجود ربي معي، وخائفة بسبب ذلك، كما أني لست أدري هل هذا ابتلاء أم ماذا؟! وهل سأظل على هذا الحال؟ وإلى متى؟ وكيف سأكمل حياتي وأنا هكذا أصلاً؟ وكيف سأصبح أمًا؟

تأتيني تخيلات وسيناريوهات مرعبة عن حياتي وأنها ستحصل؛ لأن عقلي اعتاد على الخطر، فأصبحت تأتيني تخيلات وسيناريوهات في عقلي، أنني من الممكن في يوم أن أؤذي نفسي أو أؤذي أولادي؛ لأني لم أعتد على الضغوطات، والحياة صعبة! وأخاف وأشعر أني تدمرت، ولست أعرف هل هذا مِن الشيطان، وقد استغل لحظة خوفي وأصبح يخيفني أكثر؟!

أنا -والحمد لله- كنت في الأزهر الشريف، لكن الأمر يحدث رغمًا عني، فقلبي وقت الخوف يستجيب تلقائيًا، ويحمي نفسه من خلال التخيلات والسيناريوهات تلك، بمعنى أني لن أفعل شيئًا كهذا الذي يصدر مني وقت الخوف، لكني أحزن على نفسي وأتساءل: لماذا أوصل ابنته لهذه الحالة؟ هل ربنا هو من يفعل هذا كله؟ ولماذا؟ ولماذا الله يترك والدنا يفعل بنا هذا؟ وكيف سأواجه حياتي فيما بعد؟ وكيف سأعود للثقة؟ وكيف سأتزوج وأنجب؟

أحتاج أن يجيبني أحد إجابة تصبرني على هذه العيشة وعلى حالي؟ وهل من الممكن أن يغير ربنا ما أعانيه من هذا الخوف؟ وهل يحاسبني ربي على عدم إحساسي به؟

أرجو الرد.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نور حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نرحب بك -أختنا الفاضلة- عبر استشارات إسلام ويب، ونشكر لك تواصلك معنا بهذا السؤال، والذي قرأناه أكثر من مرة، وقد آلمنا ما ورد فيه من معاملة والدكم القاسية.

بنيتي: ليس فيما حصل لك ذنب لكِ فيه، وإنما هي مسؤولية والديك، وخاصة والدك، فالمفروض به أن يُقدِّم لك ولأخواتك الرعاية والحماية، ويبني شخصياتكن، ويرفع من ثقتكن بأنفسكن، ولكن مع الأسف أجد بعض الآباء يقومون بعكس ما هو مطلوب منهم، وهذا ليس ذنبك، فأنت لم تقترفي شيئًا في هذا، بل إنما كنتِ ضحية هذه المعاملة السيئة.

بنيتي: نعم، الحياة فيها ابتلاءات متنوعة مختلفة، إلَّا أننا بعون الله -عز وجل- نتجاوز هذه الابتلاءات من خلال التسديد والتوفيق، واللجوء إليه سبحانه وتعالى، والاستعانة بما يُمكن أن يساعدنا، كالاستشارات عن بُعد وغيرها.

بنيتي: إن ما وصلتِ إليه من هذه الحال من الخوف الشديد وصعوبة مواجهة الآخرين، وما ذكرتِ من الرهاب الاجتماعي؛ إنما هي نتيجة نفسية طبيعية لمعاملة غير طبيعية، وليس العكس؛ فالشيء غير الطبيعي هو معاملة والدكم القاسية هذه، وحرمانكم العاطفي من الحنان والرعاية، فهذا الأمر غير الطبيعي. أما ما وصلتِ إليه من هذه النفسية، فهذه هي النتيجة المتوقعة الطبيعية لمثل هذه المعاملة.

بنيتي: هناك قول جميل لأحد العلماء يقول: "نحن لسنا أسرى لماضينا"، أي مهما كان الماضي قاسيًا فيمكن أن نتجاوزه ونخرج منه، ولا نبقى أسرى لهذا الماضي السابق.

بنيتي: أنا مطمئن بأنك -بإذن الله عز وجل- ستتجاوزين هذا من خلال إدراكك أن هذا هو والدك، ومن الصعب ربما تغييره، وإنما بتجنب الوقوف عنده ورفع التوقعات منه، ولكن ما يمكن أن تحصلوه منه فنعمَّ به، وإلا وأنتِ خاصة في هذا العمر -في الواحد والعشرين- المفروض أن تبدئي بالانطلاق خارج البيت، فالحياة واسعة جدًّا، طبعًا أقول انطلاقًا مدروسًا، وفيه احترام لتعاليم الإسلام السلوكية والنفسية وغيرها، وسرني أن في بياناتك أنك طالبة، فهذا أمر طيب.

فاحرصي على دراستك، وحاولي أن تستعيني بالمرشدة النفسية الموجودة في الجامعة، فمعظم الجامعات لديهن خدمات الإرشاد الطلابي.

معك حق، العلاج ليس دواء فقط، وإنما العلاج السلوكي والنفسي، بحيث تتجاوزين كل هذه العقبات التي عشتِها في حياتك.

احرصي -بُنيتي- على الصحبة الصالحة؛ فلعل في مبادلتك لتجاربك مع صديقاتك المخلصات عونًا لك أيضًا، ولا شك أنكِ وأخواتك الأخريات يمكن أن تتعاونَّ مع بعضكنَّ لتجاوز هذه المرحلة.

أنا مطمئن أيضًا -بنيتي- أنكِ -بإذن الله عز وجل- ستتابعين طريقك، وستتزوجين، وتنجبين بعون الله -عز وجل-، وستكونين أمًّا حنونة رؤوفة، فتعطين أولادك ما حُرمتِ منه.

فإذًا الخلاصة -بُنيتي-: عليك بالصبر، ولكن مع اتخاذ الأسباب في بناء حياتك وبناء شخصيتك، وعدم تجنُّب لقاء الناس، بل على العكس الإقبال على مقابلة الناس؛ فهذا نوع من العلاج السلوكي الذي سيعالج كثيرًا من القضايا التي تعانين منها.

أرجو أن لا تنسينا -بُنيتي- من دعوة صالحة في ظهر الغيب، وبالله التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهت إجابة الدكتور مأمون مبيض (استشاري الطب النفسي)
وتليها إجابة الدكتور أحمد المحمدي (المستشار التربوي).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهلًا بك في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله الكريم أن يحفظك وأن يبارك فيك، وبعد:

قبل أي كلام أنت لست سيئة، ولست فاشلة، ولست ضعيفة الإيمان، ولستِ مكسورة كما تظنين، أنت إنسانة عاشت خوفًا طويلًا، حتى صار الخوف جزءًا من جهازها العصبي، لا من قلبها ولا من أخلاقها، فأنتِ لم تُربَّي على الأمان، بل على التهديد، ولم تُربَّي على الاحتواء، بل على الرعب، وهذا هو مصدر الألم عندك، ودعينا نجيبك من خلال ما يلي:

أولًا: افهمي ما جرى لك بوضوح وصدق؛ فأبوك مهما كان موقعه قد أساء وظلم وتجاوز، القسوة المستمرة، والضرب العنيف، والتحقير، والتحكم، وإهانة الأم، وتخويف الأبناء لا تُربي، بل تهدم النفس من الداخل، والطفل الذي يعيش في خوف دائم يتعلّم دون وعي أن العالم غير آمن، وأن الناس خطر، وأنه ضعيف ولا قيمة له، وهذه الرسائل لا تختفي حين نكبر، بل تتحوّل إلى قلق دائم، وتوقّع للأسوأ، وخوف من الناس، وهروب من المواجهة، وأفكار مرعبة وقت الضغط، ولذلك فما يحدث لك اليوم نتيجة طبيعية جدًا لما مررت به، وليس خللًا فيك.

ومع هذا الفهم، هناك نقطتان مهمتان لا بد أن تثبتا في قلبك:
الأولى: أن تفهمي ما جرى دون أن تشوّهي قلبك، أو تحمّلي نفسك ذنبًا، أو تحوّلي أباك إلى صورة شيطانية تُثقِل روحك، فنحن لا نعلم الدافع الحقيقي لما يفعله أبوك، فقد يكون نشأ في بيئة قاسية لم يعرف فيها الرحمة، أو عاش ضغوطًا اجتماعية ونفسية لا تُرى، أو كان لديه اضطراب نفسي لم يُعالج منه، أو اجتمع كل ذلك عليه، أنت لا تعلمين ما الذي كُسر فيه قديمًا، ولا ما الذي حمل فوق طاقته، ولا ما الذي أفسد طريقته في التعبير، ومع هذا تبقى حقيقة لا تُلغى، وهي أن أباك -رغم إساءته- يحبكم؛ لأن محبة الأب لأبنائه فطرة، حتى إن تشوَّهت طرق التعبير عنها، وخرجت في صورة قسوة مؤلمة، وهذا لا يبرّر ظلمه ولا يهوّن من ألمك، لكنه يمنع قلبك من التحول إلى كراهية تأكلك من الداخل، فنفهم لنرتاح، لا لنسكت عن الخطأ، وندرك الأسباب دون أن نبرّئ الظلم.

أما النقطة الثانية فهي: أن البرّ واجب لكن الظلم ليس حقًّا، ومن المهم أن يهدأ قلبك هنا، فنعم برّ الوالد واجب حتى لو أساء، لكن البر لا يعني قبول الظلم، ولا الرضا بالإيذاء، ولا إسقاط حقك عند الله، فأنت مأمورة بالبر بقدر استطاعتك بالكلمة الطيبة، وترك العقوق، وعدم الدعاء عليه، وألّا تقابلي الإساءة بالإساءة، لكن في الوقت نفسه هو مُحاسب على ظلمه حسابًا دقيقًا.

ثقي أن ما تشعرين به لا يعني أن الله بعيد، فغياب الإحساس بالله لا يعني غيابه عنك؛ لأن الخوف الشديد يُغلق المشاعر ومنها المشاعر الوجدانية، والإنسان المرهق نفسيًا لا يشعر لا لأنه جاحد بل لأنه متألم، والله يعلم ضعفك.

وعليه: فما عشتِه ابتلاء، ليس لأنك سيئة، بل لحكمة يعلمها الله، فالابتلاء ليس دائمًا في المرض أو الفقر، بل قد يكون في بيت بلا أمان، أو أب لا يعرف الرحمة، أو طفولة مسروقة، والله لا يختار عبثًا، وقد لا ترين الحكمة الآن، لكن كثيرين مرّوا بتجارب مشابهة، ثم صاروا أكثر وعيًا ورحمة، وقدرة على بناء بيت مختلف، وأكثر قربًا من الله بعد الشفاء.

وأما الأفكار المخيفة التي ترعبك عن إيذاء نفسك أو أولادك مستقبلًا، فهي لا تعني أنك ستفعلين ذلك، بل هي أفكار قهرية اقتحامية، تأتي لأن عقلك تعوّد أن يتوقع الخطر ليحميك لا لأنك شريرة، والدليل: أنك تخافين منها وتبكين بسببها، وتسألين كيف أفكر هكذا؟ فالشخص الذي يريد الأذى لا يخاف منه، ولذلك اطمئني فهذه أفكار خوف لا نوايا، لن تبقي هكذا طويلًا.

لذا قوليها في داخلك: لن أبقى هكذا، فالخوف مُتَعَلَّم، والجسد يمكن أن يتعلّم الأمان من جديد ولو ببطء، والثقة يمكن أن تُبنى خطوة خطوة، والروح يمكن أن تُشفى ولو بعد حين، وليس مطلوبًا منكِ أن تصبحي قوية فجأة، بل أن تصدّقي أن التغيير ممكن وألّا تكرهي نفسك لأنها خائفة.

وحياتك الآن وسط هذا الواقع يحتاج منك رحمة بنفسك لا جلدًا لها، فقولي: (أنا خائفة؛ لأنني تأذيت لا لأنني ضعيفة)، وقولي: (يا رب أنا أمتك فاهدني واصلحني ويسر لي الهدى)، ولا تفسّري كل خوف على أنه فشل، فالخوف عرض لا هوية، وابحثي عن أي دعم آمن يذكّرك أنكِ لستِ وحدك، واحلمي بحياة مختلفة، فليس ذنبك أنكِ وُلدتِ هنا، لكن من حقك أن تختاري أين تكمّلين.

واعلمي أن إمكانية أن تصبحي زوجة وأمًا صالحة قائمة وبقوة، فكثير من الأمهات الرحيمات كنّ بنات مجروحات.

وفي الختام -يا ابنتي-: أنت لم تُكسري بل أُنهكْتِ، والمنهك يحتاج راحة لا إدانة، ويحتاج من يقول له: أنا أراك وأفهمك، والله يراكِ ويرى دموعك التي لا يراها أحد ويرى صبرك الذي لا تشعرين به، وسيأتي يوم بإذنه تنظرين فيه إلى نفسك وتقولين: (نجوت رغم كل شيء)، وأنت تستحقين الدعم لا الصمت.

ونوصيك في الختام كذلك بمحاولة فهم التقرب من أبيك رغم كل ما حدث، فلعله مريض أو يحتاج إلى من يسمع منه، اقتربي منه بحذر وحرص مع الدعاء له، وثقي أن الله سيعوضك خيرًا، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً