الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قلة الثقة بجمالي تسبب لي مشكلة نفسية، فما نصيحتكم لي؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أولاً: أنا فتاة أنعم الله علي بنعم كثيرة، وأنا حقيقة أتأملها وشاكرةً لها.
أهلي متفهمون ومتحابون، لدينا مال يكفي احتياجاتنا ويزيد، قدر جيد من الذكاء وحب الثقافة، والأهم من ذلك الضمير مستيقظ غالباً وحب لدين الله، فلا أكاد أفعل الخطأ حتى أندم عليه، وأحاول تجديد التوبة مجدداً بأسرع ما يمكن.

مشكلتي: نشأت بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، وكثرة ادعاء المثالية، ونشر صور المتبرجات، حيث أصبحت أرى نفسي أقل من عادية من ناحية الجمال، وهذا يصيبني بالغم دون إرادتي؛ ليس لأني مقتنعة أن الجمال هو الأساس، ولكن لأن المجتمع حولي نظرته سطحية، ويركزون كثيراً على الجمال المثالي والمزيف الذي يظهر على مواقع التواصل، على سبيل المثال لم أستطع الالتزام بالرياضة حتى الآن رغم أنني خسرت وزناً جيداً، وعيني دائماً تتجه للسلبيات في جسدي كالدهون العنيدة حول البطن وهي قليلة لدرجة لا يمكن ملاحظتها إلا أسفل الملابس، الشعر البسيط تحت الجلد في أماكن معينة، اسمرار خفيف إلى متوسط في بعض المفاصل، شعر مجعد ومنفوش، كلها أمور طبيعية ،ولكن مواقع التواصل، وعدم غض بصر الشباب جعل المثالية طبيعية.

يوسوس لي الشيطان أنني لو تزوجت فسيطلب مني أكثر من طاقتي بكثير، وهذه الوسوسة لا تفارقني وتزيدني غماً.

ومشكلتي أيضاً: أنني لا أجيد الاعتناء بنفسي كثيراً كبقية الفتيات، أشعر أنني أسير على الفطرة والنظافة، ولا أحب كثرة التعقيد التي أراها حولي، ولم أعد أدري ما الصح وما الخطأ! فهل أنا مهملة ببقائي هكذا؟ وكيف أتوازن في تفكيري دون الانعزال عن الإنترنت؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ميرة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نشكركم على تواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا، ونقدر لكم حسن التزامكم بتعاليم الدين الحنيف، وعلاقتك الطيبة مع الوالدين الكريمين، فهذه من أسباب السعادة التي يغفل عنها كثير من الناس.

في الواقع لفت نظري عبارة حول مثالية مواقع التواصل؛ بمعنى أن من يظهرون على مواقع التواصل الاجتماعي يحرصون على الظهور بمظهر مثالي، سواء بوضع مساحيق التجميل، أو حتى بالإفراط في استخدام فلاتر الصور والفيديو التي تخفي التجاعيد والعيوب، وهذا الأمر صار ظاهرة منتشرة عالمياً وعليها دراسات علمية كثيرة يمكن الرجوع إليها في المجلات العلمية المختصة، ولكن ما يهمنا هو ليس وضع الآخرين مع أنفسهم، ولا كيف ينظرون إلينا! ما يهمنا نحن هو كيف ننظر إلى أنفسنا؟! وهذا هو التساؤل الصحيح الذي ينبغي أن نبحث له عن إجابة منطقية وسليمة.

إن ما لاحظته عليك من الأسئلة السابقة هو أنك تنحي نحو الشخصية المثالية (perfectionist) ونمط هذه الشخصية نمط وسواسي -غالباً-، فهي شخصية حريصة ودقيقة في كافة التفاصيل المتعلقة بحياتها، وكما يقال: "تصنع من الحبة قبة" ونتيجة هذا الحرص الزائد قد تصاب بالإرهاق والتعب، فتقع في إهمال بعض جوانب حياتها، وتقع في مبدأ "تصنع من القبة حبة" عكس المبدأ السابق؛ والمطلوب هو أن يصل الإنسان إلى حالة التوازن التي تجعل منه شخصاً يصنع من الحبة حبة، ومن القبة قبة!

إن مقارنتك لنفسك بمن يظهرون على وسائل التواصل الاجتماعي لها علاقة بمفهومك عن ذاتك، وتقديرك لنفسك، وهذا الأمر يحتاج منك إلى شيء من العناء والقراءة حول مفهوم صورة الجسد (self-image) والقراءة حول اضطراب صورة الجسد dysmorphic وهذا لا يعني -بالضرورة- أن سمات الاضطراب تنطبق عليك، فهذا يحتاج إلى فحص إكلينيكي وتقييم متخصص، ولكن من باب لفت نظرك إلى طبيعة مشكلتك، وأهمية القراءة والثقافة حولها، لا سيما أنك قارئة ومثقفة، وهذا يسهل عملية إيصال المعلومة بشكل أبسط وأسرع.

إن ديننا العظيم قد عالج مسألة اضطراب صورة الجسد علاجاً عميقاً، فالإسلام دوماً يلفت نظرنا إلى أهمية الباطن على حساب الظاهر والخارج، ونصوص القرآن والسنة طافحة بهذا المعنى، على سبيل المثال: قول الله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَاۤئلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ [الحجرات 13]. فالعبرة بالتقوى، وليس بالقبيلة والجنس والنوع.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". رواه مسلم. وهذا حديث صريح في التفريق بين النظر إلى صورة الجسم وصورة القلب، فمحط نظر الرحمن هو صورة القلب لا صورة الجسم، وعليه فما يمارسه هواة التواصل الاجتماعي هو نوع من اللهو، وهو في أصله مباح طالماً خلا عن المحرمات، أما إذا تلبس بأمور محرمة؛ كالتبرج ونحوه فهو حرام.

وإذا سألنا أنفسنا هذا السؤال: هل يصح أن أحسد شخصاً يفعل الحرام؟! بلا شك أن الجواب سيكون: لا!

إذناً فما الداعي لإقلاق سكينة النفس بالتحرق على مثل هذه الأمور، بينما نهمل ما يجب علينا الاهتمام به والعناية بتجميله وهو القلب؟! هل أدركنا إلى أي بُعدٍ معرفي سحيق ألقينا أنفسنا فيه ونحن نلهث وراء أيقونات وسائل التواصل الاجتماعي! إذا تأملت في هذا المفهوم طويلاً؛ سوف يكفيك عن عشرات المحاضرات التي تأمرك بالابتعاد عن مثل هذه الأمور.

مع ملاحظة أن ديننا هو دين الجمال الظاهري والباطني معاً، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة. قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس"، فنلاحظ هنا أن الإسلام رغم اهتمامه الكبير بالباطن، إلا أنه لم يهمل الظاهر، على أن الاهتمام بالظاهر أخذ نسبة معينة من الاهتمام أقل من نسبة الاهتمام بالباطن، وهكذا فلتكن نظرتنا المتوازنة بين جمال الظاهر وجمال الباطن، وليست مجرد اهتمام بالظاهر فقط بينما الباطن خراب بلقع.

من هنا تدركين أهمية الاهتمام بالنظافة الشخصية، والعناية الخاصة لفتاة مثلك، وربما تحتاجين للاستعانة بإحدى شقيقاتك أو أقاربك في مثل هذا الأمور، فالتعلم بالممارسة والتعود على سلوكيات النظافة الشخصية أمر مهم، ولكن دون إفراط أو تفريط.

نسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً