الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ولادة الحسن رضي الله عنه وفضله

            خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

            [ستة أشهر]

            أبو محمد، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، وآخر الخلفاء بنصه.

            أخرج ابن سعد عن عمران بن سليمان، قال: (الحسن والحسين: اسمان من أسماء أهل الجنة، ما سمت العرب بهما في الجاهلية).

            ولد الحسن - رضي الله عنه - في نصف رمضان، سنة ثلاث من الهجرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث.

            روى عنه: عائشة - رضي الله عنها -، وخلائق من التابعين؛ منهم: ابنه الحسن، وأبو الحوراء ربيعة بن شيبان، والشعبي، وأبو وائل. [شبهه بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكر بعض فضائله رضي الله عنه

            وكان شبيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، سماه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وعق عنه يوم سابعه، وحلق شعره وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة، وهو خامس أهل الكساء.

            قال العسكري: (لم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية).

            وقال المفضل: (إن الله حجب اسم الحسن والحسين حتى سمى بهما النبي صلى الله عليه وسلم ابنيه).

            وأخرج البخاري عن أنس قال: (لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي).

            وأخرج الشيخان عن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن على عاتقه وهو يقول: «اللهم؛ إني أحبه فأحبه».

            وأخرج البخاري عن أبي بكرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة يقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».

            وأخرج البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هما ريحانتاي من الدنيا». يعني: الحسن والحسين.

            وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».

            وأخرج الترمذي عن أسامة بن زيد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وحسن وحسين على وركيه فقال: «هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم، إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما».

            وأخرج عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: «الحسن والحسين».

            وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل الحسن على رقبته، فلقيه رجل فقال: نعم المركب ركبت يا غلام!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ونعم الراكب هو».

            وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن الزبير قال: (أشبه أهل النبي صلى الله عليه وسلم به وأحبهم إليه: الحسن بن علي، رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته - أو قال: ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته وهو راكع، فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر).

            وأخرج ابن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي، فإذا رأى الصبي حمرة اللسان.. يهش إليه).

            وأخرج الحاكم عن زهير بن الأقمر قال: قام الحسن بن علي يخطب، فقام رجل من أزد شنوءة فقال: أشهد لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعه في حبوته وهو يقول: «من أحبني.. فليحبه، وليبلغ الشاهد الغائب». ولولا كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم... ما حدثت به أحدا.

            كان الحسن رضي الله عنه له مناقب كثيرة، سيدا حليما، ذا سكينة ووقار وحشمة، جوادا ممدوحا، يكره الفتن والسيف، تزوج كثيرا، وكان يجيز الرجل الواحد بمائة ألف.

            وأخرج الحاكم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: (لقد حج الحسن خمسا وعشرين حجة ماشيا وإن النجائب لتقاد معه).

            وأخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال: (ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم... ألا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة؛ فإنه كان بين الحسين وعمرو بن عثمان بن عفان خصومة في أرض، فعرض الحسين أمرا لم يرضه عمرو، فقال الحسن: فليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، قال: فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه). [حلمه رضي الله عنه على مروان وهو أمير

            وأخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال: (كان مروان أميرا علينا، فكان يسب عليا كل جمعة على المنبر، وحسن يسمع فلا يرد شيئا، ثم أرسل إليه رجلا يقول له: بعلي وبعلي وبعلي وبك وبكوبك، وما وجدت مثلك إلا مثل البغلة يقال لها: من أبوك؟ فتقول: أمي الفرس، فقال له الحسن: ارجع إليه؛ فقل له: إني والله لا أمحو عنك شيئا مما قلت بأن أسبك، ولكن موعدي وموعدك الله؛ فإن كنت صادقا... جزاك الله بصدقك، وإن كنت كاذبا... فالله أشد نقمة).

            وأخرج ابن سعد عن رزيق بن سوار قال: (كان بين الحسن وبين مروان كلام، فأقبل عليه مروان، فجعل يغلظ له، وحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن: ويحك؛ أما علمت أن اليمين للوجه والشمال للفرج؟! أف لك!! فسكت مروان).

            وأخرج ابن سعد عن أشعث بن سوار، عن رجل قال: (جلس رجل إلى الحسن فقال: إنك جلست إلينا على حين قيام منا، أفتأذن؟)

            وأخرج ابن سعد عن علي بن زيد بن جدعان قال: (خرج الحسن من ماله لله مرتين، وقاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إن كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا، ويعطي خفا ويمسك خفا). [كثرة زواجه وطلاقه لتكثير نسله رضي الله عنه

            وأخرج ابن سعد عن علي بن الحسين: قال: (كان الحسن مطلاقا للنساء، وكان لا يفارق امرأة... إلا وهي تحبه، وأحصن تسعين امرأة).

            وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: (كان الحسن يتزوج ويطلق، حتى خشيت أن يورثنا عداوة في القبائل).

            وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال علي: (يا أهل الكوفة؛ لا تزوجوا الحسن؛ فإنه رجل مطلاق)، فقال رجل من همدان: والله لنزوجنه، فما رضي... أمسك، وما كره... طلق.

            وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن حسن، قال: (كان الحسن رجلا كثير نكاح النساء، وكن قلما يحظين عنده، وكان قل امرأة تزوجها إلا أحبته وصبت به).

            وأخرج ابن عساكر عن جويرية بن أسماء قال: (لما مات الحسن ... بكى مروان في جنازته، فقال له حسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟! فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا، وأشار بيده إلى الجبل).

            وأخرج ابن عساكر عن المبرد قال: (قيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر!! أما أنا أقول: من اتكل على حسن اختيار الله له... لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختار الله له، وهذا حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضا). [وفاة الحسن رضي الله عنه]

            توفي الحسن - رضي الله عنه - بالمدينة مسموما، سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس، دس إليها يزيد بن معاوية أن تسمه ويتزوجها، ففعلت، فلما مات الحسن ... بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها، فقال: إنا لم نرضك للحسن فنرضاك لأنفسنا؟!

            وكانت وفاته سنة تسع وأربعين، وقيل: في خامس ربيع الأول سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وجهد به أخوه أن يخبره من سقاه، فلم يخبره، وقال: (الله أشد نقمة إن كان الذي أظن، وإلا... فلا يقتل بي - والله - بريء).

            وأخرج ابن سعد عن عمران بن عبد الله بن طلحة قال: رأى الحسن كأن بين عينيه مكتوبا: { قل هو الله أحد } فاستبشر به أهل بيته، فقصوها على سعيد بن المسيب، فقال: (إن صدقت رؤياه.. فقل ما بقي من أجله، فما بقي إلا أياما حتى مات). [كرامة لمن رجا الخالق ولم يرج المخلوق]

            وأخرج البيهقي وابن عساكر من طريق أبي المنذر هشام بن محمد عن أبيه قال: أضاق الحسن بن علي، وكان عطاؤه في كل سنة مائة ألف، فحبسها عنه معاوية في إحدى السنين، فأضاق إضاقة شديدة، قال: فدعوت بدواة لأكتب إلى معاوية لأذكره نفسي، ثم أمسكت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: «كيف أنت يا حسن؟» فقلت: بخير يا أبت، وشكوت إليه تأخر المال عني، فقال: «أدعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تذكره ذلك؟!» فقلت: نعم يا رسول الله، فكيف أصنع؟»

            فقال: «قل: اللهم؛ اقذف في قلبي رجاءك، واقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجو أحدا غيرك، اللهم وما ضعفت عنه قوتي، وقصر عنه عملي، ولم تنته إليه رغبتي، ولم تبلغه مسألتي، ولم يجر على لساني مما أعطيت أحدا من الأولين والآخرين من اليقين... فخصني به يا رب العالمين».

            قال: فوالله؛ ما ألححت به أسبوعا حتى بعث إلي معاوية بألف ألف وخمسمائة ألف، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيب من دعاه.

            فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: «يا حسن؛ كيف أنت؟» فقلت: بخير يا رسول الله، وحدثته حديثي، فقال: «يا بني؛ هكذا من رجا الخالق ولم يرج المخلوق». [نصحه لأخيه الحسين وتثبيت الحسين له رضي الله عنهما]

            وفي «الطيوريات» عن سليم بن عيسى قارئ أهل الكوفة قال: (لما حضرت الحسن الوفاة.. جزع، فقال له الحسين: يا أخي؛ ما هذا الجزع؟! إنك ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي، وهما أبواك، وعلى خديجة وفاطمة؛ وهما أماك، وعلى القاسم والطاهر، وهما خالاك، وعلى حمزة وجعفر؛ وهما عماك.

            فقال له الحسن: أي أخي؛ إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقا من خلق الله لم أر مثله قط).

            قال ابن عبد البر: وروينا من وجوه: (أنه لما احتضر.. قال لأخيه: يا أخي؛ إن أباك استشرف لهذا الأمر فصرفه الله عنه، ووليها أبو بكر، ثم استشرف لها، فصرفت عنه إلى عمر، ثم لم يشك وقت الشورى أنها لا تعدوه، فصرفت عنه إلى عثمان، فلما قتل عثمان ... بويع، ثم نوزع حتى جرد السيف، فما صفت له، وإني والله، ما أرى أن يجمع الله فينا النبوة والخلافة، فلا أعرفن ما استخلفك سفهاء الكوفة فأخرجوك، وقد كنت طلبت إلى عائشة - رضي الله عنها - أن أدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: نعم، فإذا مت... فاطلب ذلك إليها، وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا.. فلا تراجعهم، فلما مات... أتى الحسين عائشة - رضي الله عنها - فقالت: نعم وكرامة، فمنعهم مروان، فلبس الحسين ومن معه السلاح حتى رده أبو هريرة، ثم دفن في البقيع إلى جنب أمه رضي الله عنهما).

            التالي السابق


            الخدمات العلمية