الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومما قيل من الشعر يوم أحد:

قول حسان بن ثابت يذكر أصحاب اللواء من بني عبد الدار:


منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغور النجوم     من حبيب أصاب قلبك منه
سقم فهو داخل مكتوم     لم تفتها شمس النهار بشيء
غير أن الشباب ليس يدوم     رب حلم أضاعه عدم الما
ل وجهل غطى عليه النعيم     لا تسبنني فلست بسبي
إن سبي من الرجال الكريم     ما أبالي أنب بالحزن تيس
أم لحاني بظهر غيب لئيم     ولي البأس منكم إذ رحلتم
أسرة من بني قصي صميم     تسعة تحمل اللواء وطارت
في رعاع من القنا مخزوم     وأقاموا حتى أتيحوا جميعا
في مقام وكلهم مذموم     وأقاموا حتى أزيروا شعوبا
والقنا في نحورهم محطوم [ ص: 50 ]     وقريش تفر منا لواذا
أن يقيموا وخف منها الحلوم     لم تطق حمله العواتق منهم
إنما يحمل اللواء النجوم

ومن أبيات لعبد الله بن الزبعرى، ولم يكن أسلم يومئذ:


يا غراب البين أسمعت فقل     إنما تنطق شيئا قد فعل
كل عيش ونعيم زائل     وبنات الدهر يلعبن بكل
أبلغن حسان عنا آية     فقريض الشعر يشفي ذا الغلل
كم قتلنا من كريم سيد     ماجد الجدين مقدام بطل
صادق النجدة قرم بارع     غير ملتاث لدى وقع الأسل
حين حلت بقباء بركها     واستحر القتل في عبد الأشل
ليت أشياخي ببدر شهدوا     جزع الخزرج من وقع الأسل
فقتلنا الضعف من أشرافهم     وعدلنا ميل بدر فاعتدل

وقال حسان يبكي حمزة في أبيات رضي الله عنهما:


أتعرف الدار عفا رسمها     بعدك صوب المسبل الهاطل
ساءلتها عن ذاك فاستعجمت     لم تدر ما مرجوعة السائل
دع عنك دارا قد عفا رسمها     وابك على حمزة ذي النائل
المالئ الشيزى إذا أعصفت     غبراء في ذي الشبم الماحل
والتارك القرن لذي لبدة     يعثر في ذي الخرص الذابل [ ص: 51 ]
واللابس الخيل إذا أحجمت     كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من هاشم     لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم     شلت يدا وحشي من قاتل
أي امرئ غادر في ألة     مطرورة مارنة العامل
أظلمت الأرض لفقدانه     واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله في جنة     عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزا لنا     من كل أمر نابنا نازل .

وقال كعب بن مالك يبكي حمزة أيضا:


طرقت همومك فالرقاد مسهد     وجزعت أن سلخ الشباب الأغيد
ودعت فؤادك للهوى ضمرية     فهواك غوري وصحيك منجد
فدع التمادي في الغواية سادرا     قد كنت في طلب الغواية تفند
ولقد أنى لك أن تناهى طائعا     أو تستفيق إذا نهاك المرشد
ولقد هددت لفقد حمزة هدة     ظلت بنات الجوف منها ترعد
ولو أنها فجعت حراء بمثله     لرأيت راسي صخرها يتهدد [ ص: 52 ]
قرم تمكن في ذؤابة هاشم     حيث النبوة والندى والسؤدد
والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت     ريح يكاد الماء منها يجمد
والتارك القرن الكمي مجدلا     يوم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل في الحديد كأنه     ذو لبدة شثن البراثن أربد
عم النبي محمد وصفيه     ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى المنية معلما في أسرة     نصروا النبي ومنهم المستشهد
ولقد إخال بذاك هندا بشرت     لتميت داخل غصة لا تبرد
مما صبحنا بالعقنقل قومها     يوما تغيب فيه عنها الأسعد
وببئر بدر إذ يرد وجوههم     جبريل تحت لوائنا ومحمد
حتى رأيت لدى النبي سراتهم     قسمين نقتل من نشاء ونطرد
فأقام بالعطن المعطن منهم     سبعون عتبة منهم والأسود
وابن المغيرة قد ضربنا ضربة     فوق الوريد لها رشاش مزبد
وأمية الجمحي قوم ميله     عضب بأيدي المؤمنين مهند
فأتاك فل المشركين كأنهم     والخيل تثفنهم نعام شرد
شتان من هو في جهنم ثاويا     أبدا وممن هو في الجنان مخلد

وقال كعب يذكر يوم أحد، أنشده ابن هشام:


سائل قريشا غداة السفح من أحد     ماذا لقينا وما لاقوا من الهرب
كنا الأسود وكانوا النمر إذ زحفوا     ما إن نراقب من إل ولا نسب
فكم تركنا بها من سيد بطل     حامي الذمار كريم الجد والحسب [ ص: 53 ]
فينا الرسول شهاب ثم يتبعه     نور مضيء له فضل على الشهب
الحق منطقه والعدل سيرته     فمن يجبه إليه ينج من تبب
نجد المقدم ماضي الهم معتزم     حين القلوب على رجف من الرعب
يمضي ويذمرنا من غير معصية     كأنه البدر لم يطبع على الكذب
بدا لنا فاتبعناه نصدقه     وكذبوه فكنا أسعد العرب
جالوا وجلنا فما فاؤوا ولا رجعوا     ونحن نتبعهم لم نأل في الطلب
لسنا سواء وشتى بين أمرهما     حزب الإله وأهل الشرك والنصب

وقال ضرار بن الخطاب الفهري يذكر يوم أحد من أبيات:


ما بال عينك قد أزرى بها السهد     كأنما جال في أجفانها الرمد
أمن فراق حبيب كنت تألفه     قد حال من دونه الأعداء والبعد
أم ذاك من شغب قوم لا جداء بهم     إذا الحروب تلظت نارها تقد
ما ينتهون عن الغي الذي ركبوا     وما لهم من لؤي ويحهم عضد
وقد نشدناهم بالله قاطبة     فما تردهم الأرحام والنشد
حتى إذا ما أبوا إلا محاربة     واستحصدت بيننا الأضغان والحقد
سرنا إليهم بجيش في جوانبه     قواضب البيض والمحبوكة السرد
فأبرز الحين قوما من منازلهم     فكان منا ومنهم ملتقى أحد
وقد تركناهم للطير ملحمة     وللضباع إلى أجسادهم تفد

وقالت نعم، امرأة شماس بن عثمان، تبكي شماسا، وكان أصيب يوم أحد رحمه الله ورضي عنه:


يا عين جودي بفيض غير إبساس     على كريم من الفتيان لباس [ ص: 54 ]
صعب البديهة ميمون نقيبته     حمال ألوية ركاب أفراس
أقول لما أتى الناعي له جزعا     أودى الجواد وأودى المطعم الكاس
وقلت لما خلت منه مجالسه     لا يبعد الله منا قرب شماس

فأجابها أخوها يعزيها:


اقني حياءك في عز وفي كرم     فإنما كان شماس من الناس
لا تقتلي النفس إذ حانت منيته     في طاعة الله يوم الروع والباس
قد كان حمزة ليث الله فاصطبري     فذاق يومئذ من كاس شماس

وذكر أبو عمر البيتين الأول والأخير من هذه الأبيات الثلاثة، ونسبها لحسان، يعزي أخت شماس فيه، وهو: شماس بن الشريد بن هرمي بن عامر بن مخزوم، كذا نسبه ابن الكلبي، وزاد فيه أبو عمر: سويدا بين الشريد ، وهرمي، وليس بشيء.

وشماس لقب، واسمه: عثمان بن عثمان، قتل يوم أحد ابن أربع وثلاثين سنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرمي ببصره يمينا ولا شمالا يومئذ إلا رأى شماسا في ذلك الوجه، يذب بسيفه عنه، حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم، فترس بنفسه دونه، حتى قتل، فحمل إلى المدينة وبه رمق، فأدخل على عائشة ، فقالت أم سلمة : ابن عمي يدخل على غيري؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احملوه إلى أم سلمة " فحمل إليها، فمات عندها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلى أحد فيدفن هنالك كما هو في ثيابه التي مات فيها، بعد أن مكث يوما وليلة، إلا أنه لم يأكل ولم يشرب، ولم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يغسله.

وكان خارجة بن زيد بن أبي زهير قد أخذته الرماح يوم أحد فجرح بضعة عشر جرحا، فمر به صفوان بن أمية فعرفه، فأجهز عليه ومثل به، وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر، يعني أباه أمية بن خلف. وقد ذكر بعضهم: خارجة فيمن قتل أمية، ولما قتل صفوان بن أمية من قتل يوم أحد، قال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد، قتلت ابن قوقل ، وابن أبي زهير ، وأوس بن أرقم. [ ص: 55 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية