الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( والمستحب أن يتوضأ ثلاثا ثلاثا لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ مرة مرة ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، ثم توضأ مرتين مرتين وقال : من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين ، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ، ووضوء خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هذا ضعيف رواه ابن ماجه في سننه هكذا من رواية أبي بإسناد ضعيف ، ورواه ابن ماجه أيضا والبيهقي وغيرهما من رواية ابن عمر وإسناده أيضا ضعيف ، قال الإمام الحافظ أبو بكر الحازمي : قد روي هذا الحديث من أوجه عن غير واحد من الصحابة وكلها ضعيفة ، قال : وحديث ابن عمر في الباب نحو حديث أبي ، قال : وليس في حديثهما : ( ووضوء خليلي إبراهيم ) . قلت : قوله ليس في حديثهما : ( ووضوء خليلي إبراهيم ) ليس بصحيح ، بل ذلك موجود في حديث ابن عمر رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ، كذلك رأيته فيه .

                                      وذكر القاضي حسين في تعليقه في حديث أبي هذا خلافا لأصحابنا منهم من قال : فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوضوآت في مجالس ; لأنه لو كان في مجلس لصار غسل كل عضو ست مرات وذلك مكروه ، ومنهم من قال : كان في مجلس واحد للتعليم ، ويجوز مثل ذلك للتعليم ، ورجح صاحب البحر كونه في مجالس .

                                      قلت : الظاهر أن هذا الخلاف لم ينقلوه عن رواية بل قالوه بالاجتهاد ، وظاهر رواية ابن ماجه وغيره أنه كان في مجلس واحد وهذا كالمتعين ; لأن التعليم لا يكاد يحصل إلا في مجلس ، وكيف كان فالحديث ضعيف لا يحتج به كما قدمناه ، وإذا ثبت ضعفه تعين الاحتجاج بغيره ، وفي ذلك أحاديث [ ص: 461 ] كثيرة صحيحة منها حديث عثمان رضي الله عنه أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فتوضأ ثلاثا ثلاثا } رواه مسلم وفي رواية البيهقي وغيره : { أن عثمان رضي الله عنه توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ؟ قالوا : نعم } . ومنها حديث علي رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ ثلاثا ثلاثا } ) رواه أحمد بن حنبل رضي الله عنه والترمذي والنسائي ، قال الترمذي : هذا أحسن شيء في هذا الباب وأصح .

                                      وعن شقيق بن سلمة قال : { رأيت عثمان وعليا رضي الله عنهما يتوضآن ثلاثا ثلاثا ويقولان : هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، رواه ابن ماجه بإسناد صحيح : ومنها حديث عمرو بن شعيب الذي ذكره المصنف بعد هذا وهو صحيح والله أعلم .

                                      أما حكم المسألة فالطهارة ثلاثا ثلاثا مستحبة في جميع أعضاء الوضوء بإجماع العلماء إلا الرأس ففيه خلاف للسلف سنفرده بفرع إن شاء الله تعالى ، ومذهبنا المشهور أن مسح الرأس يكون ثلاثا كغيره ، وحكى بعض أصحابنا عن بعض العلماء أنه لا يستحب الثلاث ، وعن بعضهم أنه أوجب الثلاث ، وكلاهما غلط ولا يصح هذا عن أحد ، فإن صح فهو مردود بالأحاديث الصحيحة والله أعلم .

                                      ( فرع ) أبي بن كعب الراوي هنا هو أبو المنذر ، ويقال أبو الطفيل ، أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري بالنون ، شهد العقبة الثانية وبدرا ، وثبت في الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه { لم يكن الذين كفروا } وقال : أمرني الله أن أقرأ عليك } ، وفي حديث الترمذي { أقرؤكم أبي } ، وهو أحد كتاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي في خلافة عمر وقيل عثمان ، وقد أوضحت ذلك في مناقبه في تهذيب الأسماء



                                      ( فرع ) في تكرار مسح الرأس مذهبنا المشهور الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتبه وقطع به جماهير الأصحاب أنه يستحب مسح [ ص: 462 ] الرأس ثلاثا كما يستحب تطهير باقي الأعضاء ثلاثا ، وحكى أبو عيسى الترمذي في كتابه عن الشافعي وأكثر العلماء - رحمهم الله - أن مسح الرأس مرة . ولا أعلم أحدا من أصحابنا حكى هذا عن الشافعي رضي الله عنه لكن حكى أبو عبد الله الحناطي - بالحاء المهملة - ثم صاحب البيان والرافعي وغيرهما وجها لبعض أصحابنا أن السنة في مسح الرأس مرة ، وحكاه الحناطي والرافعي في مسح الأذنين أيضا ومال البغوي إلى اختياره في مسح الرأس ، وحكى بعض تلامذته أنه كان يعمل به ، وأشار أيضا إلى ترجيحه البيهقي كما سأذكره عنه قريبا إن شاء الله تعالى .

                                      ومذهب الشافعي وأصحابه رضي الله عنهم استحباب الثلاث وهو مذهب داود ورواية عن أحمد وحكاه ابن المنذر عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وزاذان وميسرة رضي الله عنهم .

                                      وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن ابن سيرين أنه قال : يمسح رأسه مرتين ، وقال أكثر العلماء إنما يسن مسحة واحدة ، هكذا حكاه عن أكثر العلماء الترمذي وآخرون ، قال ابن المنذر وممن قال به عبد الله بن عمر وطلحة بن مصرف والحكم وحماد والنخعي ومجاهد وسالم بن عبد الله والحسن البصري وأصحاب الرأي وأحمد وأبو ثور رضي الله عنهم ، وحكاه غير ابن المنذر عن غيرهم أيضا ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ، واختاره ابن المنذر .

                                      فأما ابن سيرين فاحتج له بحديث الربيع بنت معوذ { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه مرتين } وعن عبد الله بن زيد مثله .

                                      وأما القائلون بمسحة واحدة فاحتجوا بالأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما من روايات جماعات من الصحابة في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه مسح رأسه مرة واحدة مع غسله بقية الأعضاء ثلاثا ثلاثا } منها رواية عثمان وابن عباس وعبد الله بن زيد رضي الله عنهم ، وروي ذلك أيضا من رواية عبد الله بن أبي أوفى وسلمة بن الأكوع والربيع بنت معوذ وغيرهم ، وقد قال أبو داود في سننه وغيره من الأئمة : الصحيح في أحاديث عثمان وغيره مسح الرأس مرة ، وقد سلم لهم البيهقي هذا واعترف به ولم يجب عنه مع أنه المعروف بالانتصار لمذهب الشافعي رضي الله عنه .

                                      [ ص: 463 ] قالوا : ولأنه مسح واجب فلم يسن تكراره كمسح التيمم والخف ، ولأن تكراره يؤدي إلى أن يصير المسح غسلا ، ولأن الناس أجمعوا قبل الشافعي رضي الله عنه على عدم التكرار ، فقوله خارق للإجماع .

                                      واحتج الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - بأحاديث وأقيسة : ( أحدها ) وهو الذي اعتمده الشافعي حديث عثمان رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ ثلاثا ثلاثا } رواه مسلم ، ووجه الدلالة منه أن قوله توضأ يشمل المسح والغسل ، وقد منع البيهقي وغيره الدلالة من هذا ; لأنها رواية مطلقة ، وجاءت الروايات الثابتة في الصحيح المفسرة مصرحة بأن غسل الأعضاء ثلاثا ثلاثا ومسح الرأس مرة ، فصرحوا بالثلاث في غير الرأس ، وقالوا في الرأس : " ومسح برأسه " ولم يذكروا عددا ثم قالوا بعده : ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، وجاء في روايات في الصحيح ثم غسل يديه ثلاثا ثم مسح برأسه مرة ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، فلم يبق فيه دلالة .

                                      الحديث الثاني : عن عثمان رضي الله عنه أنه { توضأ فمسح رأسه ثلاثا وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا } رواه أبو داود بإسناد حسن ، وقد ذكر أيضا الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - أنه حديث حسن ، وربما ارتفع من الحسن إلى الصحة بشواهده وكثرة طرقه ، فإن البيهقي وغيره رووه من طرق كثيرة غير طريق أبي داود .

                                      الحديث الثالث : عن علي رضي الله عنه أنه { توضأ فمسح رأسه ثلاثا ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل } رواه البيهقي من طرق وقال : أكثر الرواة رووه عن علي رضي الله عنه دون ذكر التكرار ، قال : وأحسن ما روي عن علي رضي الله عنه فيه ما رواه عنه ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما فذكره بإسناده عنه وذكر { مسح الرأس ثلاثا } وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، وإسناده حسن .

                                      وروي عن أبي رافع وابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه مسح رأسه ثلاثا } واعتمد الشيخ أبو حامد الإسفراييني حديث أبي بن كعب السابق وقد سبق أنه ضعيف لا يحتج به .

                                      [ ص: 464 ] وأما الأقيسة فقالوا : أحد أعضاء الطهارة فسن تكراره كغيره ، وقالوا : ولأنه إيراد أصل على أصل فسن تكراره كالوجه ، وفيه احتراز من التيمم ومسح الخف ، قال الشيخ أبو حامد : عادة أصحابنا الخراسانيين في هذا أنهم يقولون أصل في الطهارة المبعضة ، يحترزون عن غسل الجنابة فإنه لا يتبعض ، قال : وإنما فعلوا هذا ; لأنهم لا يعرفون المذهب في غسل الجنابة ، والمذهب أنه يسن تكرار الغسل فيه .

                                      وأما الجواب عما احتج به ابن سيرين من حديث الربيع فمن أوجه : ( أحدها ) أنه ضعيف رواه البيهقي وغيره من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف عند أكثر أهل الحديث .

                                      ( والثاني ) لو صح لكان حديث الثلاث مقدما عليه لما فيه من زيادة .

                                      ( الثالث ) أنه محمول على بيان الجواز ، وأحاديث الثلاث للاستحباب جمعا بين الأحاديث .

                                      وأما حديث عبد الله بن زيد فرواه النسائي بإسناد صحيح ، والجواب عنه من الوجهين الآخرين وقد أشار البيهقي إلى منع الاحتجاج به من حيث إن سفيان بن عيينة انفرد عن رفقته فرواه مرتين والباقون رووه مرة ، فعلى هذا يجاب عنه بالأوجه الثلاثة .

                                      وأما دليل القائلين بمسحة واحدة فأجاب أصحابنا عنها بأجوبة كثيرة من أحسنها أنه نقل عن رواتها المسح ثلاثا وواحدة كما سبق ، فوجب الجمع بينهما فيقال : الواحدة لبيان الجواز والثنتان لبيان الجواز وزيادة الفضيلة على الواحدة ، والثلاث للكمال والفضيلة .

                                      ويؤيد هذا أنه روي الوضوء على أوجه كثيرة ، فروي على هذه الأوجه المذكورة ، وروي غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين ، وروي على غير ذلك ، وهذا يدل على التوسعة وأنه لا حرج كيف توضأ على أحد هذه الأوجه ، ولم يقل أحد من العلماء يستحب غسل بعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين مع أن حديثه هكذا في الصحيحين ، فعلم بذلك أن القصد بما سوى الثلاث بيان الجواز فإنه لو واظب صلى الله عليه وسلم على الثلاث لظن أنه واجب ، فبين في أوقات الجواز بدون ذلك ، وكرر بيانه في أوقات ، وعلى أوجه ليستقر معرفته ولاختلاف الحاضرين الذين لم يحضروا الوقت الآخر . فإن قيل : فإذا كان الثلاث أفضل فكيف تركه في أوقات ؟ فالجواب [ ص: 465 ] ما قدمناه أنه قصد صلى الله عليه وسلم البيان وهو واجب عليه صلى الله عليه وسلم فثوابه فيه أكثر وكان البيان بالفعل آكد وأقوى في النفوس وأوضح من القول .

                                      وأما قول أبي داود وغيره فجوابه من وجهين : ( أحدهما ) أنه قال : " الأحاديث الصحاح " وهذا حديث حسن غير داخل في قوله . ( والثاني ) أن عموم إطلاقه مخصوص بما ذكرناه من الأحاديث الحسان وغيرها .

                                      وأما الجواب عن قياسهم على التيمم ومسح الخف فهو أنهما رخصة فناسب تخفيفهما ، والرأس أصل فإلحاقه بباقي أعضاء الوضوء أولى .

                                      وأما قولهم : تكراره يؤدي إلى غسله فلا نسلمه ; لأن الغسل جريان الماء على العضو ، وهذا لا يحصل بتكرار المسح ثلاثا ، وقد أجمع العلماء على أن الجنب لو مسح بدنه بالماء وكرر ذلك لا ترتفع جنابته بل يشترط جري الماء على الأعضاء .

                                      وأما قولهم : خرق الشافعي رضي الله عنه الإجماع فليس بصحيح فقد سبق به أنس بن مالك وعطاء وغيرهما كما قدمناه عن حكاية ابن المنذر ، وابن المنذر هو المرجوع إليه في نقل المذاهب باتفاق الفرق . والله أعلم




                                      الخدمات العلمية