الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
2- الحق في طلب العلم

لا يماري أحد في أن طلب العلم فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة، ومن لم يطلبه يكون مقصرا في حق الله، ثم في حق أمته ومجتمعه ونفسه أيضا، ( يقول صلى الله عليه وسلم : طلب العلم فريضة على كل مسلم )

[1] ونظرة إلى القرآن الكريم تكشف لنا الدعوة المستمرة للإنسان للنظر في الكون بعلم ومعرفة، واعتبار الكون كتابا مفتوحا يمكن أن ينهل منه كل ذي لب وعقل وتفكير، بل إن العلم والتعلم واستخدام النظر في ملكوت الله تعالى من أهم فرائض الإسلام، التي لا يمكن لأي مدنية أو حضارة أن تقوم بدونهما، ووظيفة العقل لا يمكن أن تؤدي دورها بحق ورشـد إلا بهما. وكلما تعلم الإنسان أمور دينه ودنياه فهم واقعه جيدا، وسهل عليه القيام بواجباته ومسئولياته نحوه في ضوء شريعته، يقول الله تعالى في استفهام إنكاري يفيد النفي عن عدم تساوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون:

( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (الزمر:9) ،

والخطاب موجه هـنا - كما في جل الآيات التي لا تختص بمخاطبة جنس بعينه- للرجل وللمرأة على السواء. [ ص: 61 ]

وفي آية أخرى يحث الله عز وجل المؤمنين (والمؤمنات) على العلم، ويعدهم بالرفعة والدرجات العلى لما يحصلون عليه من علم، فينتفعون وينفعون:

( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة:11) ،

( ويقول صلى الله عليه وسلم : إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير ) [2] .

فهل يجرؤ أحد بعد تفهم هـذه الآيات والأحاديث، والوعي بها، على منع إماء الله من الحصول على العلم، حسب الاستطاعة، والانتفاع والعمل به؟ بل هـل يحق لنا أن نتناقش في حق العلم والتعلم بالنسبة لنصف الأمة الآخر (المرأة) التي كان أول خطاب تلقاه نبيها -صلوات الله عليه- من الله عز وجل هـو ( اقرأ ) ليكون فاصلا بين عهد الجهل والخرافة وعهد العلم والتعلم والنظر في آفاق السموات والأرض، والتفكر في خلق الله؟ بل من يجد في نفسه الجرأة على تكريس الخرافة واعتبار القرآن الكريم مطية لترويج أفكار وممارسات بعيدة كل البعد عن العقل والعلم والمنطق بحجة البركة أو غيرها، متناسين أن القرآن الكريم دستور الحياة بالنسبة للمؤمن، ومنهجا [ ص: 62 ] يسلكه للوصول إلى الجنة، بالإضافة إلى التعبد به وربط الصلة من خلاله بالله عز وجل .

إن الهدف الأساس من العلم في الإسلام، عند الرجل والمرأة على السواء، هـو تكوين وتربية الشخصية المسلمة المتزنة، روحيا وجسديا، التي تستطيع أن تقوم بمسئولياتها بكفاءة وإحسان، وتسعى إلى التغيير وبناء مجتمع يقوم على تقوى الله وتحقيق خلافته في الأرض وتوحيده، وإقامة حضارة ربانية شعارها أول آية نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ، أي حضارة تقرن وتربط بين العلم بالإيمان، وإلا فإن عدم اقترانهما يؤدي إلى الجهل والطغيان واستغلال الشـعوب، بل إلى هـلاك البشـرية جمـعاء. وقد أخذت أم المؤمنين السيدة عائشة في العهد النبوي على عاتقها مسئولية العلم والتعليم، وقدمت للمرأة في كل العصور نموذجا حيا وفاعلا للمرأة المؤمنة المتعلمة العالمة، والتي يشهد على علمها مجموعة كبيرة من الصحابة رضوان الله عليهم، الذين تلقوا العلم عنها، منهم ابن أختها " عروة بن الزبيـر ، الذي قال: «ما رأيت أحدا أعلم بشعر ولا بفقه ولا بطب من عائشة» " ، بل " إن أبا موسى الأشعري يشهد أنها أعلم الصحابة حين يقول: «ما أشـكل علينا أمر فسـألنا عنه عائشـة إلا وجدنا عندها فيه علما». " [ ص: 63 ] كما أن كل النساء الصحابيات كن يأتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتعلم أمور دينهن من أعلى مصادره، مباشرة دون اللجوء إلى واسطة الزوج أو الأب بحجة القرار في البيت، لأنهن وعين جيدا الخطاب الأول الذي نزل من عند رب العزة: ( اقرأ ) وعلمن أن التفقه في الدين ثمرة طبيعية للقراءة والعلم الذي ينتفع به، وأن تكوين شخصية الإنسان المؤمن الصالح تحتاج إلى العلم المقترن بالإيمان، لاستنباط طاقاته الإبداعية وتفجيرها في مجالها الصحيح. بل إن النسـاء في العهد النبوي لما رأين أنهن لا يجلسن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدر الكافي الذي يتعلمن فيه ما يردن من أمور دينهن ودنياهن ( قالت له إحداهن: «يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك ) ، فأعطاهن رسول الله صلوات الله عليه يوما خاصا يعظهن فيه، ويتعلمن منه مباشرة، وبدون واسطة أي رجل مهما بلغت قرابته منهن.

والمرأة المسلمة اليوم مطالبة بالعلم والتعلم، ليس استجابة لبعض الدعوات التحررية التي تنحت عن الطريق القويم وطالبت بتعلم المرأة لأهداف لا مجال لذكرها، وإنما استجابة لعقيدتها وامتثالا لأوامر ربها، كي تخرج من تخلفها، وتستقيم شخصيتها، وتكون قادرة على تحمل مسئولياتها كيفما كانت، وإذا استقامت شخصيتها بالعلم تحرر [ ص: 64 ] فكرها وعقلها من الخرافة والجمود والتخلف والتبعية، وتقوت عقيدة التوحيد في نفسها لما تعلمت من الحق:

( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هـو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ) (الرعد:19) ،

واستطاعت أن تواجه مختلف المشكلات، التي تواجهها في واقع حياتها، بروح إيمانية عالية مكتسبة من علمها ومعرفتها الجيدة بشريعتها ودينها، كما تستطيع تحدي كل أشكال الزيف والانحراف والظلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية