الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحضارة الإسلامية جذور وامتدادات

الدكتورة / سعاد رحائم

المبحث الرابـع

إبراهيم، عليه السلام ، مجدد البعث الحضاري

إن القاعدة القرآنية القائلة: ( ولكل قوم هـاد ) تدل دلالة قوية على سنة التداول الحضاري للأمم، كما تستوعب في مضمونها الموجز حضارات تعاقب عليها أنبياء ورسل جددوا بناء الأقوام على شريعة وهدى من الله.

فمن سنة الله في خلقه أن أنواع البلاء الذي يعم الناس إنما هـو آثار للأعمال ونتائج للسلوك الفاسد. وتبقى هـذه السنة ثابتة سارية المفعول في صيرورة التاريخ وحركته؛ لأن الفعل الحضاري تنسحب عليه دلالات كثيرة وكبيرة من أهمها اجتثاث واقتلاع مظاهر الفساد والانحراف والشرك والضلال وأنواع الظلم كلها. كل هـذه الانحرافات هـي عوامل كبرى لسقوط الحضارات وزوالها،

قال تعالى: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين ) (الروم:41-42) .

فهناك ارتباط عميق بين أحوال حياة الناس وأوضاعهم السياسية والاقتصـادية والاجتمـاعية عـامة وبين أفعـالهم وسعـيهم في الأرض. وكلما فسدت قلوبهم وعقائدهم، فسدت أخلاقهم، وبالتالي تنهار أعمالهم، [ ص: 100 ] ويعم بها الفساد في الأرض، وتتفشى شرارته في البر والبحر. وما ذكر القرآن الكريم أمة أصيبت بالدمار والهلاك إلا وذكر سببه وموجباته التي أدت إليه وكيفية انحراف هـذه الأمة وفسوقها عن أمر ربها، حتى تكون عبرة لمن يعتبر، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وإنما هـو بما كسبت أيديهم.

كما أن باعث الدمار والهلاك لا يكون فسادا فرديا بل هـو الفساد الجماعي والظلم العام، الذي يشمل العلاقات الإنسانية الشخصية والعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل يشمل كذلك مستوى الاعتقاد والإيمان الذي يسوده الظلم والشرك بالله، والتناقض الداخلي بالتظاهر بالإيمان والعمل الصالح واستبطان غيره. ومعنى هـذا أن ظلم الإنسان لنفسه بفساده العقيدي والعملي والأخلاقي ليس مدعاة للهلاك وسببا للدمار والسقوط مادام قاصرا على الأفراد والأمة محتفظة بكيان استمراريتها وصلاحية ديمومتها وبقائها، ولكن إذا تجاوز الظلم والفساد مستوى الأفراد الذين لا يشكلون القاعدة أو الظاهرة العامة إلى مستوى دائرة الأمة، أخذت تلك الأمة في الهبوط من علياء الكرامة والعز إلى درك الذل والهوان حتى تحين ساعة الدمار والسقوط [1] . فتكون نهايتها المحتومة. [ ص: 101 ]

- إبراهيم، عليه السلام ، وبداية الدعوة

إبراهيم - عليه السلام - بن تارح، مولده بأرض الكلدانيين - وهي أرض بابل وما والاها- وهو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار [2] ثم ارتحل قوم إبراهيم، عليه السلام ، إلى أرض الكنعانيين ، وهي بلاد بيت المقدس ، فأقاموا بحران -وهي أرض الكلدانيين في ذلك الزمان وكذلك أرض الجزيرة والشام - وكانوا يعبدون الكواكب السبعة.. والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هـذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال، ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هـيكل لكوكب منها، وكانوا يقيمون لها أعيادا ويقدمون القرابين.

وكان أهل حران وكل من كان على وجه الأرض كفارا سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام.

وكان الخليل، عليه السلام ، هـو الذي أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذلك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولا واتخذه خليلا في كبره [3] وهذا أيضا ملمح آخر نستشفه من خلال سيرة إبراهيم الخليل، عليه السلام ، وهو أن الله عز وجل حينما يشاء إعادة البناء الحضاري لأمة من الأمم [ ص: 102 ] ينتقي منها أخيرهم وأفضلهم على الطريق المثلى في الخلق والتمثل العالي للفضيلة. فلقد آتى الله عز وجل إبراهيم عليه السلام - قبل أن يكلفه بالرسالة- رشده واستقامته على البر والتقوى وهو في الصغر، وهيأه بكل الأسباب والوسائل الحضارية، التي تمكنه وتؤهله للإصلاح والتغيير المنشود في الكبر.

وإذا عدنا إلى سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نجد الصورة نفسها تتكرر حينما آتاه الله رشده في الصغر، والاستقامة في شبابه، وأبعده عن كل سمر يسمره الشباب، أو ملهى يلهوه المراهقون.

فصورة السقوط الحضاري للأمم ودمار الشعوب الضالة والمفسدة ليس معناه الإبادة الشاملة للحياة داخل هـذه الأمة أو تلك، بل لا بد من الإبقاء على عناصر القوة والأمانة والبناء في تلك الأمة. وتعد هـذه العناصر بمثابة حجر الأساس الذي لا تقتلع جذوره وإن سقطت جدرانه.

من هـنا فإن إبراهيم، عليه السلام ، هـو الحجر الأساس، الذي بقي صامدا أمام اهتزازات الفساد، وبه أعاد الله لقومه وأمته مجد عزها وقوة حضارتها،

قال تعالى: ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ) (الأنبياء:51) .

إن دعوة إبراهيم، عليه السلام ، كانت مبنية على العلم اللدني، الذي به أنار طريق دعوته لذويه وقومه، فكان أول المدعوين أبوه، الذي كان يعبد الأصنام

كما أخبر عن ذلك الحق سبحانه: ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه [ ص: 103 ] كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) (مريم:41-48) .

لقد حاور إبراهيم عليه السلام أباه، ودعاه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة، فحاول أن يقنعه بأدلة لا ينكرها عقل ولا يبطلها نظر حين قال له: ( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) .

لقد امتلك إبراهيم، عليه السلام ، أدوات الحوار الناجح [4] في مخاطبته لوالده؛ وأهم هـذه الأدوات توفره على العلم اللازم والضروري بقصد الإقناع والحجة بأقصر الطرق وبأقل كلفة.

وهو حوار حضاري يحيلنا على الأدب العالي بين طرفي الحوار، وخاصة في بناء علاقات أسرية رائعة يسودها الاحترام المتبادل بين الأبناء وآبائهم. حتى في حالة الاختلاف العقيدي. فيجدر بالأبناء المهتدين أن يرفقوا بآبائهم الضالين، وأن يخفضوا لهم جناح الذل من الرحمة، وسيكون ذلك لا محالة أسلوبا رائعا في رد الضال إلى الهدى؛ لأن بناء العلاقات الجيدة سبيل إلى بناء حياة جيدة.

فلما عرض إبراهيم الرشد والهدى على أبيه لم يقبل أبوه نصيحته، وردها عليه بل تهدده وتوعده ( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ) . [ ص: 104 ] وبالرغم من إصراره وبقائه على ضلالته قابله إبراهيم بالسلام والرحمة، فقـال له ( سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ) قال ابن عباس وغيره: أي لطيفا في أن هـداني لعبادته والإخلاص له.. واستغفر له، كما وعده، فلما تبين له عداؤه لله تبرأ منه، قال تعالى: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) (التوبة:114) .

- طريق الحضارة ضد معاول الهدم

بعث إبراهيم، عليه السلام ، في أمة طغت وأغرقت في عبادة الأصنام، وكانت مهمته صعبة في تحويل العقول والقلوب إلى عبادة الله وحده لا شريك له، لتمكن حب هـذه الأوثان في أفئدتهم،

قال تعالى: ( واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هـل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هـو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هـب لي حكما وألحقني بالصالحين ) (الشعراء:69-83) . [ ص: 105 ] إنها دعوة حضارية صريحة وخطاب تنموي هـادف يوجهه نبي الله إبراهيم ، عليه السلام ، إلى أبيه وقومه ليقتلع من كيانهم ووجودهم سبيل الغي والضلال، ويهدم أنواع الظلم والشرك، كل ذلك بحوار هـادئ يملأه العطف النبوي المفعم بالرحمة الربانية لعباد الله.

إن الجهل والضلال سبيلان إلى الضعف والانكسار والانهزامية؛ والتذلل لأصنام لا تنطق ولا تسمع قمة في الجهل، وتعطيل للقدرة العقلية والفطرة الندية، وهما سبيلا الخلاص من كل تخلف وترد. لقد طرق إبراهيم، عليه السلام ، قلوب القوم وعقولهم وجادلهم بالتي هـي أحسن عسى أن يحدث الله بعد ذلك رشدا، ويبدل حالهم من سوء إلى نور يضيء أفئدتهم نحو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد.

واتخذت دعوته إلى قومه عدة أساليب ومناهج يرجى من خلالها الهدى واتباع طريق الحق، فبعد أن حاول بكل أساليب الحوار الممكنة مراجعة قومه، توجه إلى أوثانهم، وهم ينظرون ويشهدون،

ثم قال: ( فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون ) (الصافات:83-96) .

لقد أنكر على قومه عبادة الأوثان وحقرها وتنقصها بحضورهم بغية إقناعهم بضلالهم، وتيه عقولهم، وما كانت حجتهم في هـذا الغي إلا اتباع أسلافهم وآبائهم،

قال تعالى: ( ... هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) (الشعراء:72-74) ،

وأجابهم إبراهيم، عليه السلام : ( قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ) (الأنبياء:56) . [ ص: 106 ] وانتهج إبراهيم عليه السلام ، أيضا أسلوب التهكم والازدراء بقومه حين ذهب إلى أوثانهم وكسرها عن آخرها إلا ما كان من تمثال كبير اعتبروه كبير الآلهة، لم يكسره بل تركه على حاله، بغية جعلهم في وضع من الإذلال والسفه لمعتقداتهم الزائفة وعقولهم المخالفة لمبدأ الحق والرشد: ( فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين ) ، ثم اتبع ذلك: ( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم ... ) (الأنبياء:58) . ولما رأوا ذلك «قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم» [5] : ( ... من فعل هـذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ) (الأنبياء:60-61) .

إن التأسيس الحضاري الذي تطلع إليه إبراهيم، عليه السلام ، ينبني على إعادة بناء العقول بناء ينسجم مع الفطرة السليمة التي تنساق في اختياراتها إلى الموضوعية والعقلانية، بناء علميا لا يختلف مع مقاصد الحياة والعمارة، وبالتالي يمنح الإنسان الذي امتلك أدوات المعرفة ( ... السمع والبصر والفؤاد ... ) (الإسراء:36) كيانه ووجوده، وصفاء الفطرة: ( ... فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ... ) (الروم:30) وأداءه الفعلي في البناء النافع وإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وبالتالي إدراك المعنى والغاية [ ص: 107 ] الصحيحة من الخلق والاستخلاف،

قال تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) (المؤمنون:115) .

أراد إبراهيم، عليه السلام ، أن يجعل من إنسان قومه ذلك الإنسان الذي يجنح نحو العقيدة الجامعة، التي «تجمع بين الدنيا والآخرة، فلا تحقر المادة لا في الصورة النظرية - باعتبارها هـي التي يتألف منها هـذا الكون الذي نعيش فيه ونتأثر به ونؤثر فيه - ولا في صورة الإنتاج المادي، لأن هـذا الأخير من مقومات الحياة، ولكنه لا يعتبر فيها القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان ومقوماته، ويفقد بسببها حريته وكرامته وعرضه،

وصدق الله العظيم حين قال: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ... ) (القصص:77) .

كما أن العقيدة تعترف بحقوق الجسد ومتطلبات الروح، الاعتراف بحق الجسـد لا يسـتلزم إنكار الروحانية، ولا الحـد من إشراقاتـها إذ لا يوصف بالشمـول دين ينكر الجسـد، كما لا يوصف به دين ينكر الروح» [6] .

وأراد أن يجعل من قومه أمة تمتلك خصائص الفاعلية والوسطية، لقد خاطب عقول قومه قبل أن يخاطب قلوبهم؛ لأن في خطاب العقل إحياء لنور القلب، فأراد أن ينتزع من عقولهم تلك الأكنة التي غلقت أفئدتهم وأعمت بصيرتها عن إبصار الحق. [ ص: 108 ] إن الصورة الحقيقية للبناء الحضاري تتشكل في إعمار الأرض بالنافع ودفع الضار،

قال تعالى: ( ... كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (البقرة:60) ،

وقال تعالى: ( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان ... ) (البقرة:168) ،

وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) (البقرة:172) .

وهذا هـو منهج جميع الأنبياء والرسل، جاءوا بدعوة واحدة وعقيدة واحدة تتسم بالواقعية، تدعو الناس لعمل الدنيا والآخرة، وتؤسس النظام الاجتماعي من منطلق الأخـلاق والقيم والعدل والمساواة، لا من منطلق العتو والفساد في الأرض واتباع الأهواء. ولقد جمع هـذه المعاني النبيلة للعقيدة الإسلامية النبي محمد صلى الله عليه وسلم حينما أجاب فأوعى، قائلا: ( قل آمنت بالله فاستقم ) [7] - رفع قواعد البيت الحرام حضارة خالدة

إنها الهجرة النبوية الكريمة، هـجرة إبراهيم الخليل إلى أرض الله في البقعة المطهرة. لقد هـجر قومه حين خذلوه وأبوا أن يتبعوه، وأصروا على منكرهم إصرارا، حينها لم يجد إبراهيم، عليه السلام ، بدا من الرحيل في الوقت «الذي كانت فيه امرأته عاقرا لا يولد لها ولم يكن له من الولد أحد، سوى [ ص: 109 ] ابن أخيه لوط بن هـاران بن آزر . وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله وكرامة له، حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه وهاجر إلى بلد يتمكن فيه من عبادة ربه عز وجل ، ودعوة الخلق إليه. والأرض التي قصدها بالهجرة هـي أرض الشام » [8] وهي الأرض التي قال فيها عز وجل : ( ... الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) (الأنبياء:71) ، قـاله أبو العالية وأبي بن كعب وقتادة وغيرهم.

إنها هـجرة مماثلة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليؤسس دولة الحق، عاصمتها المدينة المنورة، ومركز قيادة عقيدتها مكة المكرمة، التي بنى قواعدها إبراهيم ، عليه السلام ، وابنه إسماعيل .

( فعن ابن عباس ، رضي الله عنهما : «أول ما اتخذ النساء المنـطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هـنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت. يا إبراهيم، أين تذهب [ ص: 110 ] وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها.. فقالت له: أالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم.. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال: رب (إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) حتى بلغ (يشكرون) .

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشـت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط.. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلـت الوادي تنظر هـل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هـل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعي الناس بينهما.. فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه، تريد نفسها، ثم تسمعت، فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هـي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول: بيدها هـكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف. [ ص: 111 ] قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا.. قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هـا هـنا بيت الله يبني هـذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.. وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله.. فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرا عائفا، فقالوا: إن هـذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا [9] ، أو جريين، فإذا هـم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا.. قال: وأم إسماعيل عند الماء.. فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء.. قالوا: نعم... )
[10] إن هـذا الحديث النبوي الشريف يترسم خطى ومراحل هـجرة إبراهيم ، عليه السلام ، إلى الأرض المباركة برفقة زوجته ووليدها إسماعيل ، عليه السلام ، ومقامهما بعد طول مدة في هـذا المكان المقدس، وفي هـذه البقعة المباركة، كل ذلك بإيحاء من الله عز وجل الذي شاء لإبراهيم، عليه السلام ، أن يؤسس معالم حضارة الأمة المؤمنة في ذلك المكان، فهيأ له أسباب ذلك، المادية والمعنـوية: زوجة تقية، وولدا صالحا، وأرضا طيبة، منحها الخالـق [ ص: 112 ] عز وجل أسباب العمارة من ماء وزرع وضرع، وأعمرها بصالح القوم الذين كانوا بجوار ماء زمزم.

لقد تهيأت أساليب العيش وشروط إقامة الحياة الاجتماعية من إعمار وإسكان واقتصاد، وعلاقات اجتماعية وأسرية في تلك البقعة المباركة، وهو نصيب مهم من الحياة الدنيا، الذي وصفه الله عز وجل في كثير من آياته: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ... ) (القصص:77) .

أما النصيب الآخر من الحياة الحضارية فيتجلى في بناء عقيدة الناس تجاه معبود واحد وخالق واحد ومدبر واحد.

وتحقق هـذا الجزء من البناء الحضاري حينما جاء الأمر الرباني لإبراهيم عليه السلام ، بتخليص الناس من جور الشرك والضلال إلى عدل التوحيد والهدى،

حين قال تعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) (البقرة:124-126) . [ ص: 113 ] كما تحقق ببناء الكعبة قبلة المسلمين،

فقال تعالى: ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) (البقرة:127-129) .

" وفي الخـبر الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، ورد أن إبراهيم ، عليه السلام ، قال: «يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر.. قال: فاصنع ما أمرك ربك.. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.. قال: فإن الله أمرني أن أبني هـا هـنا بيتا.. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) .. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) " [11] .

إن بناء البيت على يد إبراهيم عليه السلام ، يؤكد وحدة الدين الإسلامي، الذي اشترك في تبليغه الأنبياء والرسل جميعهم، وبنى قواعده إبراهيم، عليه [ ص: 114 ] السلام، وأكمل لبنته محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، ويشهد له قوله تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام ) أي أن الأديان السماوية كلها هـي إسلام واحد، وتوجه بالعبودية لمعبود واحد، لا إله إلا هـو وحده لا شريك له.

والآيات القرآنية تنطق بهذه الحقيقة الربانية لهذا الدين الإسلامي الذي نظم درر عقده الأنبياء والرسل كلهم،

قال تعالى: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) (البقرة:130-133) .

إن المعاني الحضارية كلها تجدد بعثها على يد إبراهيم عليه السلام ، وتحققت صورها بالقنوت لله عز وجل وشكر أنعمه الدنيوية والأخروية،

ولذلك وصفه القرآن الكريم بوصف عظيم حين قال تعالى: ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) (النحل:120-122) . [ ص: 115 ] إن بناء الكعبة المشرفة يحمل أكثر من دلالة وفي مقدمة ذلك:

- توحيد كلمة المسلمين نحو عبادة الله، عز وجل .

- تشكل الكعبة الشريفة معالم الحضارة، المادية والمعنوية.

- الكعبة المشرفة هـي مكان المؤتمر العقيدي الذي يحج إليه المسلمون من كل فج عميق،

قال تعالى: ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) (الحج:26-27) .

هذه هـي الحضارة الإبراهيمية، التي جدد بعثها الخليل إبراهيم عليه السلام ، ودعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فجعل الله الكعبة – التي رفع قواعدها إبراهيم وابنه إسماعيل - مركزا للأرض، ليتجه نحوها كل إنسان مسلم من أنحاء الكرة الأرضية لأجل أداء الصلوات الخمس على مرور الزمن ومدار الكرة الأرضية، وهي صلاة مناجاة بلغة واحدة وعقيدة واحدة، وأداء موحد، وتوجه واحد لله سبحانه وتعالى .

فاستمرار الصلة بين العبد وربه هـو استمرار لمد حضاري لا تهتز أركانه إلا بقطع هـذه الصلة، أو بقطع إحدى أوصال معانيها وغاياتها؛ لأن من مجمل غاياتها تحقيق الطمأنينة وإشاعة الأمن والسلام بين أهل الأرض، وهذا أقصى مطلب، وأفضل غاية يمكن للإنسان أن يبتغيها لا سيما في عصر الفتن الضاربة في الأرض. [ ص: 116 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية