الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحضارة الإسلامية جذور وامتدادات

الدكتورة / سعاد رحائم

المبحث الثالث

عالمية الرسالة ومظاهرها الحضارية

كثيرة هـي النصوص القرآنية الكريمة التي تحدد بدقة متناهية وظيفة ومقصدية دعوة رسولنا الكريم، المبعوث رحمة للعالمين أجمعين، سيدنا محمد عليه أزكى الصلاة والتسليم؛ هـذه الدعوة التي حددها الخالق عز وجل في كون محمد، عليه السلام ، بعث بشيرا ونذيرا للناس كافة، دون استثناء أو تخصيص،

يقول تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (سبأ:28) ؛

( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) (الفرقان:1) ؛

فهي دعوة ورسالة عالمية: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ... ) (الأعراف:158) ،

( إن هـو إلا ذكر للعالمين ) (ص:87) .

ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هـذه العالمية في ( حديث رواه جابر ، رضي الله عنه ، قائلا: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود... ) [1] .

لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم هـاديا وداعيا إلى الحق وسراجا منيرا، مستنيرا بتوجيهات ربه، الذي أرسله بالهدى ودين الحق،

قال تعالى: [ ص: 142 ] ( هـو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (الصف:9) ،

ودليله في هـداية القرآن الكريم الناس أجمعين ذلك الوحي الإلهي، الذي لا يأتيه الباطـل من بين يديه ولا من خـلفه، لأنه «كلية الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير ولا استدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة» [2] ولما كانت دعوته صلى الله عليه وسلم شاملة لكل الناس كانت رحمته أيضا شاملة لكل الناس،

قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .

ولعل من أبرز مظاهر عالمية دعوته: رسائله صلى الله عليه وسلم إلى الأمراء والملوك، يدعوهم فيها إلى الإسلام.

تروي كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية كتب إلى الروم وفارس والحبشة وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام، فبعث بكتبه مع رسله إليهم.. وخرج صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم بعد الحديبية فقال لهم : «إن الله بعثني للناس كافة» ، وأمرهم أن يؤدوا عنـه، ونهاهم أن يختـلفوا عليه كما اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام .

وهكذا أصبح المتناقلون كل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها، فبعث صلى الله عليه وسلم ستة رسل، أرسلوا كلهم في يوم واحد: أولهم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، فأسلم وحسن إسلامه. [ ص: 143 ] وثانيهم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم [3] واسمه هـرقل، فهم بالإسلام فلم توافقه الروم فخـافهم على ملكه وضن به فلم يسـلم، ولما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم طواه ثم رفعه وعظمه فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ثبت ملكه» [4] وثالثهم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس ، فلما قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم : ( أن يمزقوا كل ممزق ) [5] ورابعهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية ، واسمه جريج ابن مينا ، فأكرمه، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجاريتين وهما مارية بنت شمعون ، أم إبراهيم، وأختها سيرين .

وخامسهم شجـاع بن وهب الأسـدي إلى ملك البلقـاء الحارث ابن أبي شمر الغساني [6] وسادسهم سليط بن عمرو القرشي إلى هـوذة بن علي ملك اليمامة فلم يسلم [7] .. كما بعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن العـاص إلى ملكي عمان وهما جيفر وعبد ابنا الجلندا فأسلما. وبعث صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي ومعه أبو هـريرة إلى المنذر ابن ساوى العبدي ملك البحرين [8] [ ص: 144 ] لقد بعث صلى الله عليه وسلم رسائله إلى الملوك في مختلف بقاع العالم مؤكدا عالمية رسالته، التي وصلت في عهده صلى الله عليه وسلم إلى الأقطار والدول عبر سفرائه ووزرائه، وهم صحابته الكرام، رضوان الله عليهم.

فهي رسالة امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة... فالإسلام جاء لإصلاح المجتمع وسياسة الدولة وبناء الأمة ونهضة الشعوب وتجديد الحياة، تماما مثلما أنه عقيدة وشريعة، ودعوة ودولة، وسلام وجهاد، وحق وقوة، وعبادة ومعاملة، ودين ودنيا [9] إن رسالة الإسلام رسالة عالمية موجهة للبشرية جمعاء؛ لأنها تأمر بمكارم الأخلاق والتسامح والإخاء والتعاون على أساس أن البشرية تشكل وحدة إنسانية متكاملة ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ... ) (النساء:1) .

لأجل ذلك اخترقت الرسالة المحمدية الحدود الزمانية فامتدت خمسة عشر قرنا من الزمان وستبقى خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ، واخترقت أيضا الحدود المكانية فامتدت عبر مشارق الأرض ومغاربها، واحتوت كل اللغات فأسلم العجم [ ص: 145 ] والعرب؛ واخترقت الكثير من المعتقدات فآمن كثير من اليهود والنصارى وأصحاب العديد من الديانات الوثنية؛ واخترقت الحدود النفسية حين حصحص الحق بأحقية الإسلام وبطلان ما سواه؛ كل ذلك لأنه دين العدل المطلق والتسامح المثالي، الذي يدعو إلى الحوار المستمر والهادف مع الأديان والمعتقدات والمذاهب والأيديولوجيات .

رسالة الإسلام رسالة التعايش والتساكن

إن رسالة الإسـلام تحث على تعميق التساكن والتعايش السلمي العالمي بين أبناء الشعوب عن طريق الاندماج والانصهار والتعارف بما يفضي إلى إسعـاد بني البشـر والتسـليم المطـلق لله الواحد القهار،

يقول تعالى: ( ... وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ... ) (الحجرات:13) .

وقيم الإسلام المثلى تصلح لكل زمان ومكان، وتتفاعل مع التصورات والأفكار الجديدة، التي أنتجها عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة ومبادئ الديموقراطية والحداثة المبنية على ثقافة الحوار وقبول (الآخر) .

غير أن هـذه القيم والأطروحات الجديدة، إذا أفرغ محتواها من تلك الروح الربانية الخلاقة، فشلت في أداء وظيفتها، وذهبت أدراج الرياح. لذلك فإن أسمى ما ينبغي أن تقدمه هـذه التصورات، التي يتم بناؤها في ضوء قيم الإسلام، هـو إسعاد الإنسانية وخلق أجواء التضامن والمحبة والتعايش ومطاردة الظلم والاستبداد والأنانية. [ ص: 146 ] إن بلوغ هـذه الأهداف رهين، في كل زمان ومكان، بالتمثل بروح الإسلام وقيمه؛ لأن الحياة لا يمكن أن تدب في الإنسانية إلا بوحي من الله وروح منه،

يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ... ) (الأنفال:24) .

ويقول تعالى أيضا: ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ... ) (الشورى:52) .

فكلمات الله، التي لا يسعها مداد بحار الدنيا، هـي القادرة على بعث الحياة في كل أمة موات؛ لأن مفهوم الحياة هـو خلق التوازن بين المادة والروح.

لكن ما نأسف له في زماننا، وخاصة في المجتمعات الإسلامية، هـو ذلك التأثر العميق بالماديات، والتسابق نحو تحقيق الذات بالصورة المادية، غافلين الجانب الروحي لهذه الذات، التي لا يمكنها أن تعيش منفصلة عنه، لكي يبقى أزكى ما نحقق به ذواتنا هـو تقوى الله عز وجل والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه.

وقد أثبت الطب النفسي الحديث أن الإنسان الذي يعيش حياة مؤمنة تقية طاهرة بطهارة الإسلام ينعم بنفس مطمئنة هـادئة، لا تصيبه حالات الاكتئـاب النفسي ، كما لا تصيبه بعض الأمراض المتفشية كمرض الصرع أو انفصام الشخصية ، فالاعتقاد في الله وإشباع الروح بالإيمان القوي يملآن قلب المؤمن ويجنبانه العاهات النفسية التي تحبط كيانه النفسي، مصداقا لقوله [ ص: 147 ] تعالى : ( ... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد:28) ، بينما تكون النفس الأمارة بالسوء مريضة، يعتريها الخوف الدائم والارتباك المدمر.

إن المحافظة على الشعائر الدينية يقوي القدرة على التحكم في الغرائز، ويمنع الدوافع التي تكسر الحدود الاجتماعية للسلوك، فهي موانع قوية تحول دون دوافع الانزلاق الأخلاقي.

فالدين الإسلامي لذلك يقوي دعائم المجتمع، الذي يشكل الأفراد المسلمون لحمة كيانه الإنساني، ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) [10] إن الله سبحانه وتعالى ، الذي خلق الإنسان وركب فيه مجموعة من الدوافع البيولوجية والاجتماعية والنفسية، أنزل له الإسلام، دين الفطرة، بضوابط تضبط وتقدر هـذه الأشياء والدوافع، بحسب حاجة الإنسان إليها، وبحسب منظومة الضر والنفع القائمة على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد؛ ذلك أن من مقاصد الدين الإسلامي الكبرى الحفاظ على الدين والعقل والنفس والمال والعرض واعتبار المصالح المرسلة، التي تفسح مجالا أوسع للعمل والإنتاج وفق مرضات الله عز وجل .

فالإسلام، الذي حمله محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية يتعامل مع الإنسان باعتباره مخلوقا مسئولا مكلفا امتزجت في تركيبته الخلقية نفخة من روح الله [ ص: 148 ] وقبضة من طين الأرض.. والنفخة الروحية هـي التي تدفع لا محالة كل إنسان إلى الشوق نحو أصله،

يقول تعالى: ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ... ) (العنكبوت:61) .

تجليات إنسانية رسول العالمين

إن محمدا صلى الله عليه وسلم واحد من البشر، خرج إلى الدنيا عن طريق نكاح، وأنجبته امرأة بعد متم الأشهر التسعة للحمل مر كغيره من البشر، بمراحل الطفولة والصبا والشباب، وسعى في الأرض طلبا للحياة كسائر بني البشر. لم يكن صاحب جاه ولا مال ولا سلطان، بل كان صاحب فضيلة وصدق ومحبة في الأرض بين ذويه، اجتمعت له عناصر القوة والأمانة، وحظي باحترام الصغير والكبير من أهل الجزيرة العربية . له نسب شريف عريق يمتد إلى ولد عدنان، وهو واحد من العرب، من أهل قريش ،

قال تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... ) (التوبة:128) ،

تدرج صلى الله عليه وسلم في مراتب الكمال بفضل استقامته وطلبه لمكارم الأخلاق، حتى وصفه تعالى بقوله: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلـم:4) .

كانت الإنسانية قبل بعثته تتشوف وتتشوق إلى الروح العلية عن طريق التبصر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض. استخدم أدوات المعرفة حق استخدام، حرك سمعه للحق، وبصره للنور، وفؤاده للهداية، فسلك شعاب مكة بحثا عن الحقيقة ونور الهدى، حتى وجد نفسه متعبدا متحنثا في غار حراء يناجي ربه ويطلب عفوه وهدايته. [ ص: 149 ] وحينها جاءه النداء العلوي من رب السموات والأرض، فنـزل عليه أول نداء رباني أن ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5) .

إن إشارات الوحي الأولى دعوة صريحة للعلم والمعرفة، حيث كان القرآن العظيم أول مدرسة نهل منها رسولنا الكريم، وكان معلمه خالقه وبارئه رب العالمين،

الذي قال له مخاطبا: ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) (النحل:64) .

وشملت بذلك رحمتـه الناس كلهم، بل المخلوقات كلها،

قال تعالى: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ... ) (آل عمران:159) .

كان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان يجادل أهل المعتقدات الأخرى، وخاصة أهل الشرك، بالتي هـي أحسن، وهو أس ينبغي أن نعتمده في حواراتنا مع الأديان الأخرى والثقافات المغايرة حتى نثبت (للآخر) في هـذا الزمان مدى رحابة وسعة ورحمة هـذا الدين، الذي يحمل مشعل نوره محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية كلها.

وفي الوقت نفسه، يجب على المسلمين اليوم التأسي برسولهم، والسير على خطاه صلى الله عليه وسلم والدفاع عن كرامة الإسلام والمسلمين، وهذه هـي النصرة الحقيقية لرسولنا الكريم، قولا وعملا، ورب ضارة نافعة، فلعل ما أصابنا اليوم من إساءة لديننا عن طريق الإساءة إلى حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم راجع إلى [ ص: 150 ] التخلي عن التمسك بسنته وهديه صلى الله عليه وسلم . فهي صفعة مؤلمة لكنها موقظة ومنهضة للهمم، ومشعرة بالندم تجاه قيمنا وديننا الحنيف، الذي هـو أمانة بين يدي كل مسلم في مختلف أنحاء العالم.

غايات الوجود الإنساني:

الدين الإسلامي آية الكون، يحمل آيات الوحي وآيات الوجود؛ وتمكين الإنسان من القدرات العقلية دعوة صريحة إلى التأمل في نصوص الوحي المنـزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفي آيات الكون والآفاق والأنفس.. هـذه الدعوة هـي السبيل إلى خلاص الأمة من التدهور والانكسار، من خلال التشبث بصفات وسلوك هـذا الرسول الكريم الهادي إلى السبيل القويم.

فنظرة الإسلام إلى الإنسان إنما تكتمل بالنظر في الغايات التي حددها القرآن الكريم وهي غايات ومقاصد حكيمة تسعد الناس وتنفعهم في الدنيا والآخرة، وذلك هـو الفوز العظيم، وهي التي «استخلصها علماؤنا في كثير من مؤلفاتهم كالراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة إلى مكارم الشريعة» وهي التي حددها في ثلاث غايات تحت باب «ما لأجله أوجد الإنسان» وهي:

1- عمارة الأرض: المذكورة في قوله تعالى: ( ... واستعمركم فيها ... ) (هود:61) .

2- عبادة الله: المـذكورة في قوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) ، وهذه لا تتم إلا بمعرفة الله، بمعرفة ما في الكون من آيات. [ ص: 151 ] 3- خلافة الله: المذكورة في قوله تعالى ( ... إني جاعل في الأرض خليفة ... ) (البقرة:30)

وتتم هـذه باقتداء الإنسان بالباري عز وجل في صفاته وأفعاله» [11] .

وهذه غايات حددت شروطها وضوابطها ومقاصدها في كثير من النصوص القرآنية والحديثية؛ ذلك أن عمارة الأرض وتحقيق الخلافة فيها والتوجه بخالص العبادة لله عز وجل لا يتم إلا إذا استوعب الإنسان غايته من الوجود، في علاقته بخالقه وعلاقته بغيره. والرسول صلى الله عليه وسلم عمل جاهدا لتحديد سبل تحقيق هـذه الغايات عن طريق توجيه عقول الناس وقلوبهم إلى عقيدة التوحيد، ورفع الحواجز النفسية والعوائق المادية والفوارق الرزقية والعرقية، فألف بين قلوب الناس، وآخى بين المهاجرين والأنصار ،

يقول تعالى: ( ... واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ... ) (آل عمران:103) .

إن رسول الإنسانية هـو رسول المحبة والأمن والسلام لسائر الناس، على اختلاف أجناسهم ومواضعهم ومراتبهم وعقائدهم. ولعل من أبرز صور رحمته وسماحته صلى الله عليه وسلم موقفه من كفار قريش يوم فتح مكة ، في السنة الثامنة للهجرة، حينما وقف صلى الله عليه وسلم بباب الكعبة وهم ينتظرون ما هـو فاعل بهم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريـم، فقـال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليوم أقول لكم [ ص: 152 ] ما قال أخي يوسف من قبل، قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا وأنتم الطلقاء [12] .

ومن مظاهر رحمته وسماحته وتعايشه مع أهل العقائد الأخرى تلك الوثيقة [13] التاريخية، التي تجسد حقيقة حفظ حقوق «الغير» وإن كانوا من غير المسلمين، حين جعل من بين بنودها:

- أن اليهود أمة من المؤمنين.

- وأن لليهود النصرة والأسوة بينهم وبين المؤمنين.

لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: من آذى ذميا فقد آذاني، ومن خاصم معاهدا فأنا خصيمه دعوة صريحة تجسد معاني الحوار الهادف والتساكن المفضي إلى التآلف والتعايش، مسترشدا في ذلك كله بوحي من ربه عز وجل : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (العنكبوت:46) ؛

( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران:64) . [ ص: 153 ]

من أقوال أهل الديانات الأخرى في الرسول صلى الله عليه وسلم

إن المعرفة الموضوعية والمنحى الصادق في دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من لدن أهل الديانات الأخرى يجعلهم لا محالة يقفون على حقيقة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسر نجاح دعوته وامتدادها عبر الأقطار والدول في أنحاء العالم المختلفة.

وقد عبر كثير من غير المسلمين عن هـذه المعرفة في أقوالهم وما كتبوه وسجلوه عن الإسلام ورسوله.. وهذه نماذج من الأقوال الصادقة والمنصفة في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي حق دعوته الكريمة.

- قالت الشاعرة الهندية ساروجني ندو : «يعتبر الإسلام أول الأديان مناديا ومطبقا للديموقراطية ، وتبدأ هـذه الديموقراطية في المسجد خمس مرات في اليوم الواحد عندما ينادى للصلاة ويسجد القروي والملك جنبا لجنب، اعترافا بأن الله أكبر. ما أدهشني هـو هـذه الوحدة غير القابلة للتقسيم والتي جعلت من كل رجل بشكل تلقائي أخا للآخر».

- وقال المفكر الفرنسي «لامارتين [14] Lamartine»: مقارنا بين عبقرية النبي محمد عليه السلام ، وبعض عظماء التاريخ:

«إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هـي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في عبقريته؟ فهؤلاء المشاهير قد [ ص: 154 ] صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات، فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لـم تلبث أن تحطـمت بين ظهرانيهم. لكن هـذا الرجل، محمدا صلى الله عليه وسلم ، لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس... بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة.

لقد صبر النبي وتجلد حتى نال النصر من الله؛ كان طموح النبي صلى الله عليه وسلم موجها بالكلية إلى هـدف واحد... هـذا هـو محمد صلى الله عليه وسلم الفيلسوف الخطيب، المحارب القاهر للأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة بلا أنصاب ولا أزلام، هـو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة. هـذا هـو محمد صلى الله عليه وسلم بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية أود أن أتساءل: هـل هـناك أعظم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟».

- وقال المستشرق بوسورث سميت : «لقد كان محمـد قائدا سياسيا وزعيما دينيا في آن واحد، لكن لم تكن لديه عجرفـة رجال الدين، كما لم تكن لديه فيالق مثل القياصرة، ولم تكن لديه جيوش مجيشة أو حرس خاص أو قصر مشيد أو عائد ثابت؛ إذا كان لأحد أن يقول إنه حكم بالقدرة الإلهية فإنه محمد؛ لأنه استطاع الإمساك بزمام السلطة دون أن يملك دواتها ودون أن يسانده أهلها» [15] . [ ص: 155 ]

- وقال المستشرق: إدوارد جيبون أوكلي : «ليس انتشار الدعوة الإسلامية هـو ما يستحق الانبهار وإنما استمراريتها وثباتها على مر العصور، فمازال الانطباع الرائع الذي حفره محمد في مكة والمدينة له نفس الروعة والقوة في نفس الهنود والأفارقة والأتراك حديثي العهد بالقرآن، رغم مرور اثني عشر قرنا من الزمان.. لقد استطاع المسلمون الصمود يدا واحدة في مواجهة فتنة الإيمان بالله، رغم أنهم لم يعرفوه إلا من خلال العقل والمشاعر الإنسانية، فقول (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) هـي ببساطة شهادة الإسلام، ولم يتأثر إحساسهم بألوهية الله عز وجل بوجود أي من الأشياء المنظورة التي كانت تتخذ آلهة من دون الله، ولم يتجاوز شرف النبي وفضائله حدود الفضيلة لدى البشر، كما أن منهجه في الحياة جعل مظاهر امتنان الصحابة له لهدايته إياهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور منحصرة في نطاق العقل والدين» [16] - وقال الإنجليزي برناردشو : (برناردشو الإنجليزي ولد في مدينة كانيا، له كتاب سماه محمد) :

«إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هـذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هـضم جميع المدنيات، خالدا خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخلوا هـذا الدين على بينة، وسيجد هـذا مجاله الفسيح في هـذه القارة (يعني أوربا ) . [ ص: 156 ] إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا لدين محمد صلى الله عليه وسلم صورة قاتمة. لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية لكنني اطلعت على أمر هـذا الرجل فوجدته أعجوبة خـارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها».

واختم هـذه الأقوال المنصفة بتصور للمؤرخ «مايكل هـارت» أكد فيه حقيقة وعدالة وموضوعية وعالمية الرسالة المحمدية واستمرارها وتمامها ووفاءها قائلا في كتابه «مائة رجل من التاريخ»:

إن اختياري محمدا ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي. فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدأوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها كالمسيح في المسيحية، وشاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليها سواهم كموسى في اليهودية. ولكن محمدا هـو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية وتحددت أحكامها وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته، ولأنه أقام بجانب الدين دولة جديدة، فإنه في هـذا المجال الدنيوي أيضا وحد القبائل في شعب والشعوب في أمة ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم، أيضا في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية وأتمها». [ ص: 157 ] إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هـي رسالة الهدى المطلق للخلق كافة،

يقول تعالى: ( هـو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) (الفتـح:28) ،

( ... ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (الصف:9) .

فما على المسلمين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلا التمسك بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والسير على هـديه والتمثل بخلقه الكريم، والاجتهاد المتواصل في قراءة سيرته وسنته من خلال الكثير من المصنفات والكتب، التي اختصت في ذكر أمجاده ومفـاخره وشمائله وأوصافه، وأقواله وأفعاله وتقريراته وكل ما يتعلق بحياته العامة والخاصة، وليجتهد كل بيت مسلم في إطلاع أبنائه على شخصية نبينا الكريم وحثهم على قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم وحفظ بعض أجزائها، وكذا حفظ المتون الحديثية، حتى نستطيع أن ننشئ أبناءنا على معرفة نبيهم، ومن خلاله صلى الله عليه وسلم التعرف على أصول الدين الإسلامي وصفاء ينبوعه.

غير أن التحدي الأكبر الذي نواجهه اليوم هـو كيف نثبت للعالم صدق هـذه الرسالة المحمدية وسريانها الهادي والشافي من هـذا الطغيان والشرور والآفات والصراع الذي ساد العالم بشكل غير مسبوق. ويبدو لي أن إحدى الطرق الرئيسة إلى بلوغ هـذه الغاية وتحقيق هـذا المقصد تمر عبر تقديم السيرة الحقيقية لهذا النبي الكريم، وتحقيق ما دعانا إليه من عمل صالح يشمل مناحي الحياة كلها حتى نكون بحق القدوة الحسنة للعالمين أجمع. [ ص: 158 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية