الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحضارة الإسلامية جذور وامتدادات

الدكتورة / سعاد رحائم

المبحث الأول

النبوات دليل رباني في بناء الحضارات

إن الأنبياء والرسل هـم الصفوة المختارة المؤهلة لصنع الحضارات، واقتلاع الأمم من ظلم الجهل والتخلف وإرشادهم إلى طريق النور والصلاح، يقول تعالى: ( ... ولكل قوم هـاد ) (الرعد:7) .

وثبت في كتب التاريخ الإسلامي وكتب الطبقات والسير وكتب التفسير وقصص الأنبياء أن نهوض وقيام الحضارات الراشدة، على مر التاريخ، إنما كان على يد الصفوة المختارة من الأنبياء والرسل، رواد البناء والتوجيه. وهي شهادة قوية أدلى بها أيضا كتاب الغرب المهتمون بالدراسات الاستشراقية، فاعترفوا بأهمية ودور هـذه الصفوة القائدة، فقالوا: إن القيادة والريادة لا تعطي أصحابها ميزة مادية أو معنوية على غيرهم من أفراد الجماعة، ولكنهم في واقع الأمر أشد تمسكا بحقيقة امتياز الفئة القائدة على غيرها.

- النبوة صلة بين الشاهد والغائب

لأجل قيام التوازن بين عالم الغيب والشهادة ابتعث الله الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين، قائدين وممسكين بزمام الإنسانية إلى بر الأمان، فالنبوة ضرورة حتمية لبني الإنسان بل للكون عامة، فهي مقتضى سر انتظام الكون. [ ص: 72 ] وفي هـذا الصدد يقول العلامة النورسي ، أحد رواد الفكر الإسلامي: «إن القدرة التي لا تترك نملا من دون أمير والنحل من دون يعسوب لا تترك حتما البشر من دون نبي، من دون تشريع.. نعم هـكذا يقتضي سر نظام العالم» [1] .

ولما كان الإنسان عاجزا عن إدراك عالم الغيب بيقين اقتضت حكمة الصانع الحكيم أن يصطفي من خلقه أناسا يميزهم بالفطرة السليمة... يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من عمله، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ولا يبعد عن متناول أفهامهم، ويبلغوا شرائع عـامة تحدد لهم سـيرهم في تقويم نفوسهم وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هـو مناط سعادتهم وشقائهم في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله.

إضافة إلى ذلك، فإن الإنسان هـو بطبعه كائن اجتماعي، غير أن تفاوت الناس في الإدراك والهمة والعزيمة قد يفضي بهم عن الاجتماع إلى التنازع وفوات المقاصد. فإذا أضفنا إلى هـذا ذلك الشعور الفطري الذي يجده كل إنسان في نفسه يدفعه إلى البحث عن قوة أكمل وأقوى، حتى لكأن كل نفس تشعر أنها مسوقة إلى معرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة ومن عقلها تارة أخرى، فتقترب من الحـق حينا وتبتعد أحيانا أخرى، فتدين بالعبودية لمن تظنه الأكمل من المخلوقات والحيوانات والكواكب والأشجار والأحجار [2] . [ ص: 73 ] فكل هـذه الأمور التي اختص بها الإنسان جعلت منه كائنا في حاجة إلى إنسان مثله يكون له من الكمالات ما لا يكون لغيره، يؤلف بين قلوب الناس، وينـزع التنازع من أفئدتهم، ويزرع فيهم بذرة الخير والنماء، التي تؤهلهم لبناء حضارات الحاضر والمستقبل، ولا يتأتى ذلك إلا للأنبياء والرسل المصطفين الأخيار، من دون سائر البشر.

- وظيفة الأنبياء والرسل

إن سنة التدافع الحضاري والصراع القائم بين الخير والشر، الذي عرفته المجتمعات الإنسانية على مر الدهور، حسم خلافه في محطات معينة أنبياء ورسل، حيث كان الوحي الإلهي في كل حضارة نورها الهادي وشمسها المشرقة،

قال تعالى: ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ... ) (الأنعام:122) .

فالإنسان لم يترك وحده في هـذا الصراع والتدافع، بل ظل الوحي الإلهي يصاحبه في كل مرحلة جديدة، وفي كل بعث حضاري جديد، رواده الأنبياء والرسل الذين يصلون الأرض بالسماء، والإنسان بخالقه، عن طريق الوحي الرباني: ( ... ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ... ) (الشورى:52) .

إن هـذه الحلقات الحضارية «تقوم على ظاهرة الفضيلة والرذيلة، ومغزى التاريخ في الإسلام يقرر أن الحق هـو المنتصر في نهاية الصراع دائما.

ولقد كان هـذا المعنى مصدرا لطموح الإنسانية في الإسلام إلى المثل العليا التي لم تعد عرفا [ ص: 74 ] اجتماعيا تمليه ارتباطات معينة بالجماعة أو القبيلة أو الوطن، وكذلك لم تكن مبدأ فلسفيا يقوم على نظرية من النظريات، بل أصبحت قيما ربانية فوق كل هـذه الأشـكال من المسميات الأرضية، ومن أجل ذلك كانت كل قصة من قصص الكفاح والصراع ضد الباطل غراما وعشقا يهيم به أصحاب العقائد والرسالات. وفي النهاية كانت الدائرة تدور على البغي والباغين» [3] لقد سجل القرآن الكريم الكثير من الصفات النبوية، التي بها تم اختيار الأنبياء واصطفاؤهم، وأصبحوا بها روادا وقادة مصلحين لما أفسده المفسدون. ففي حق إبراهيم ، عليه السلام ،

قال تعالى: ( إن إبراهيم كان أمة ... ) (النحل:120) ،

وقال في حق غيره من الأنبياء، عليهم السلام: ( واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ) (مريم:51) ،

( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ) (مريم:54) ،

( واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا ) (مريم:56-57) ،

وقال في حق إسحاق ويعقوب ، عليهما السلام: ( ... وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) (مريم:50) ،

وقال في حق أيوب ، عليه السلام : ( ... إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) (ص:44) .

( ويروي أنس رضي الله عنه ، في حق النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم : أنه كان «أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس... ) [4] [ ص: 75 ] إن من الصفات الثابتة للأنبياء والرسل أنه يجب في حقهم الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة، وباستعراضنا لكثير من الآيات القرآنية نقف على هـذه الصفات وعلة تجلياتها في المجتمعات البشرية، فالصدق يتجلى في مطابقة خبرهم للواقع، وأنهم لا ينطقون عن الهوى، إن هـو إلا وحـي يوحى. أما الأمانة فهم أحفظ الناس للحقـوق وأظهر للحق والعدل بين الناس.

وأما التبليغ فلأنهم أهل الفصاحة والبيان لما نزل إليهم من الوحي وتبليغه وإفهامه للناس وتنـزيله حسب مداركهم وعقولهم.

وأما الفطانة فهم أكمل الخلق في الفطانة والفهم.

هذه بعض أوصاف النبوة «التي لا تكون بالكسب كما زعمت الفلاسـفة وإنما تأتي من بين اختيـارات الله تعالى التي خص بها الموجودات» [5] إن هـذه الصفات الثابتة لهم أهلتهم للقيام بالوظائف النبوية لأجل هـداية الناس في شئون حياتهم في الدنيا وفي الآخرة، فهم بعثوا للاتباع والاقتداء، حيث «يبين القرآن أن الأنبياء -عليهم السلام- قد بعثوا في مجتمعات إنسانية ليكونوا لهم أئمة الهدى، يقتدى بهم في رقيهم المعنوي، ويبين في الوقت نفسه أن الله قد وضع بيد كل منهم معجزة مادية ونصبهم روادا للبشرية، وأساتذة لها في تقدمها المادي أيضا» [6] [ ص: 76 ] وإذا نحن تأملنا فحوى هـذه الوظائف الحضارية نجدها قد تميزت بالعديد من الخصائص، من أبرزها:

- تجلية الحقيقة العقيدية

وهي أن الأنبياء والرسل جميعا جاءوا بكلمة واحدة وقضية واحدة على تتابع الأجيال، توحد الناس في ربوبية الخالق وأيضا في ألوهيته، التي تجلت في كلمة واحدة هـي «لا إله إلا الله»،

يقول تعالى: ( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) (الأعراف:59) .

ولقد جاءت في القرآن الكريم آيات كثيرة تجمع بين المهمة والقضية التي جاء بها الرسل «إذ وحدت قول الرسل كلهم في عبارة واحدة يكررها كل رسول، ثم جعلت كل قوم بمفردهم يكذبون «المرسلين» جميعا بتكذيبهم للرسول الخاص الذي أرسل إليهم. وكذلك ما جاء في سـورة الفرقان عن قوم نوح من أنهم كذبوا «الرسل» مع أنهم كذبوا رسولهم الخاص وحده وهو نوح ، ولكن ذلك بمثابة تكذيب الرسل جميعا،

قال تعالى: ( وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ) (الفرقان:37) .

ومن أمثلة النوع الثالث ما جاء في سورة الحاقة،

قال تعالى: ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز [ ص: 77 ] نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) (الحاقة:4-10) . والتعبير وإن كان يفهم منه كما قلنا إن كل فرقة من هـؤلاء قد عصت رسولها والمؤتفكات قد جمعوا في رسول واحد؛ لأن مهمتهم كلها واحدة وقضيتهم كلها واحدة... فكأنهم رسول واحد تكرر بعثه لكل فرقة منهم في حينها» [7] .

إن أهمية تقرير وحدة الرسالة ووحدة العقيدة هـو طريق نحو وحدة الأمة مصداقا لقوله تعالى: ( إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (الأنبياء:92) .

- إبراز مصدر الوجود وغايته ومصيره

إن الطبيعة المزدوجة في خلق الإنسان، من قبضة الطين ونفخة الروح، له دلالات قوية بينها الأنبياء والرسل في أن مهمة الخلق هـي عمارة الأرض وتحقيق العبادة لله الواحد الأحد؛ والإعمار في الأرض هـو إقامة الحياة وبناء الحضارات،

قال تعالى: ( ... هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ... ) (هود:61)

أي جعل أصل خلقكم من طينة الأرض وكلفكم بعمارتها، وهذا يدل دلالة قوية على الانسجام الرباني في انتظام هـذا الكون البديع، الذي أنشأ فيه من كان من أصله وهو الإنسان، فيسر له طريق وسبل عمارة هـذه [ ص: 78 ] الأرض ( هـو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ... ) (الملك:15) .

إن هـذه العمارة الإنسانية للأرض وتسخير خيرات الكون لهذا الإنسان المستخلف يحتاج إلى تنظيم سياسي واقتصادي واجتماعي، في ظل حضارة إنسانية مكتملة الأركان، واضحة المعالم، تتحقق عن طريقهما عبادة خالق هـذه الأكوان وإظهار الألوهية له؛ لأن غاية الإنسان هـو التعرف على الله تعالى وصفاته وقدرته في تدبير الكون وشئونه، وهي غاية لا تتأتى للإنسان بمفرده وبمعية عقله البشري القاصر، بل لا بد أن تنساق تدبيراته بإرشاد مرشد وهداية هـاد.

وهذه هـي وظيفة الأنبياء والرسل في إظهار ما انطوى عليه الكون من دلائل الألوهية لتكون نبراسا مضيئا للإنسان في إقامة الحياة على أساس من العدل والبناء النافع.

- الأمة المؤمنة هـي أمة الأنبياء

إن دعوة الرسل جميعا تدور حول قضية واحدة هـي عبادة الله وحده وترك عبادة من سواه، هـذا هـو لب دعوة الرسل ومجمع رسالتهم.

والإسلام هـو نداء عام، دعا إليه كل الأنبياء والرسل منذ فجر الخليقة الأولى إلى عصر الرسالة المحمدية. فالإسلام هـو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. [ ص: 79 ] فحينما قال الله تعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام ... ) (آل عمران:19)

كان يشير سبحـانه إلى أن دعوات الأنبياء والرسل والكتب التي أنزلت عليهم تحمل تعاليم الدين الواحـد في العقيدة الواحدة والتسليم لمعبود واحد، فهو دين يدعو إلى إفراد الله بالعبادة ونبذ ما سواه من المعبودات المادية والمعنوية.

ولا يقتصر مفهوم المؤمن على مؤمني أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل هـو مفهوم شامل يشمل كل من آمن بالأنبياء والرسل قبله، في أزمانهم؛ لأنه لا بد للمؤمن أن يدخل في الأمة المؤمنة من لدن آدم إلى نوح ... إلى محمد صلى الله عليه وسلم «ويحس أنه واحد من هـذه الأمة المتجانسة على مدة التاريخ وإن اختلفت ألوانها وألسنتها وأمكنتها وأزمنتها. ولا بد له كذلك أن يؤمن بوحدة الطريق الذي سلكته هـذه الأمة في أطوارها المتوالية وأجيالها المتعاقبة... وأن الرسل جميعا أرسلوا من عند الله، وبلغوا ما أوحي إليهم من عند الله.. إله واحد وعقيدة واحدة، وطريق واحـد، وإن اختلف الرسل، كل بلسان قومه وكل في مكان بعينه. ولكن وجهتهم جميعا واحدة، كلهم يلتقون في الله، وأممهم تلتقي في الله» [8] ومن تمام الإيمان في الأمة المسلمة أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله كما ورد في حديث جبريل ، عليه السلام ، وأن يشعر كل مؤمن مسلم بتلك الأخوة مع المؤمنين السابقين وبتلك الوحدة في الدين. [ ص: 80 ] لذلك كلفت الأمـة الخاتمة والمهيمنة بالإيمـان بالرسالات السابقة،

قال تعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... ) (المائدة:48) .

ومن عظيم حكمة الله عز وجل أن جعل معجزات الرسل من جنس معاش القوم المرسل إليهم، إمعانا في الحجة وقطعا للعذر.

فالمعجزة دليل على النبوة؛ لأن كل دعوى لا تقترن بدليل تكون غير مقبولة وغير مؤثرة، لذلك نجد أن القرآن الكريم يبين « أن الاقتداء بالأنبياء واتباعهم اتباعا كاملا في الأمور المادية والمعنوية يجعل الإنسان يستزيد من نور الخصال الحميدة التي يتحلى بها الأنبياء وذلك عند بحثه عن كمالاتهم المعنوية. فإنه عند بحثه عن معجزاتهم المادية أيضا يومئ إلى إثارة شوق الإنسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات التي في أيديهم ويشير إلى حضه على بلوغ نظائرها، بل يصح أن هـذه المعجزات هـي التي أهدت إلى البشرية الكمال المادي لأول مرة مثلما أهدت إليها الكمال المعنوي. والقرآن الكريم بإيراد معجزات الأنبياء إنما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في مجال العلوم والصناعات، ويشير إلى أبعد نهاياتها وغاية ما يمكن أن تحققه البشرية من أهداف، فهو بهذا يعين أبعد الأهداف النهائية لها ويحددها. ومن بعد ذلك يحث البشرية ويحضها على بلوغ الغاية ويسوقها إليها، إذ كما أن الماضي مستودع بذور المستقبل ومرآة تعكس شئونه، فالمستقبل حصيلة بذور الماضي ومرآة آماله» [9] . [ ص: 81 ] وتكون المعجزات بذلك هـي الآيات التي أجراها الله على أيدي الرسل، تصديقا لهم وبرهانا لما جاءوا به من الحق.

فموسى عليه السلام ، أرسل في قوم كان السحر فيهم رائدا ومهيمنا فآتاه الله من الآيات ما فاق به قدرة السحرة على أن يأتوا بمثله، فلما رأى السحرة ذلك استسلموا وعلموا أن هـناك قدرة ربانية وراء هـذا الكون، وأن رسـالة موسى، عليه السلام ، هـي رسالة حق ووحي سمـاوي فأذعنوا للإيمان بنبيهم.

ولما بعث الله تعالى عيسى عليه السلام ، في بني إسرائيل كان الطب فيهم رائدا، فاقتضت حكمة الله تعالى أن جعل معظم معجزاته، عليه السلام ، من قبيل أعمال أهل الطب فأبرأ الله على يديه الأبرص والأكمه، وأحيا الموتى، وأبرأ الأمراض المستعصية التي لم يكن بمقدور الأطباء مداواتها، فأعطاه معجزة الشفاء بلمسة أو دعاء. فمعجزته هـذه كانت داعيا وموجبا لإيمان كثير من بني إسرائيل.

وسخر لسليمان عليه السلام ، الريح فكان يقطع المسافات في يوم واحد مما يقطعه غيره في شهرين ( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ... ) (سبأ:12) .

وألين الحديد لداود عليه السلام ، كما ورد في قوله تعالى: ( ... وألنا له الحديد ) (سبأ:10) .. فتليين الحديد نعمة إلهية، وكذلك إذابة النحاس، [ ص: 82 ] وإيجاد المعادن وكشفها هـو أصل جميع الصناعات البشرية وأصل التقدم التكنولوجي وعصر العولمة في عهودنا هـذه.

كل ذلك تنبيه للغافلين على أن بدايات التقدم الحضاري تأسست على يد الأنبياء والرسل، الذين أوضحوا للأقوام مناهج التقدم العمراني والصناعي وكذلك الاستقرار الاجتماعي على هـدى من الله وبصيرة منه.

أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معجزته الكبرى في القرآن الكريم، إذ لما كان قومه أهل فصاحة وبيان، جعل معجزته من جنس ما نبع فيه العرب وهو الكلام البليغ.

كل هـذه المسائل المتعلقة بالبناء الحضاري في حياة الأمم السابقة بقيادة الأنبياء والرسـل أخبر عنها القرآن الكريم لتكون سندا ودليلا وعبرة لأمة محمد

قال تعالى: ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) (الشورى:52-53) ،

وقال تعالى: ( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ) (طه:99-101) .

فالقيم والمبادئ الإنسانية المثلى هـي التي تخدم القضايا العمرانية. والبناء الحضاري المادي لا قيمة له إذا أفرغ من روح القيم والفضيلة القائمة على [ ص: 83 ] مبدأ العدل والرحمة والإحسان.. فالقيم هـي روح الحضارة، وهي القائمة على حراسة حدودها من عبث العابثين وإفساد المفسدين، قال تعالى مجسدا هـذه الحقيقة: ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) (الشعراء:128-135) .

وفي السياق نفسه يستعرض الحق سبحانه أنواع الحضارات التي فرغ محتواها من القيم ومن روح تحميها من الزوال ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هـنالك الكافرون ) (غافر:82-85) . [ ص: 84 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية